أولا: قيمة القصص والأمثال في الإقناع :
يعتبر الاستدلال بالقصص والأمثال في التخاطب الإنساني عامة وفي الخطابة خاصة ذا قيمة في الإقناع واستمالة النفس إلى ما ترغب فيه أو تنفر منه، وقيمة هذا النوع في الخطابة الإسلامية تتجلى في قوة حضوره في القرآن الكريم والحديث النبوي حيث قامت الدعوة الإسلامية في معظم أركانها على مقصد الإقناع والدعوة بالتي هي أحسن، وتعتبر القصة والمثل من العناصر البارزة الواردة في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف بل إن الحجاج القرآني والنبوي في ترسيخ أصول العقيدة والإيمان وكليات الأخلاق وتشريع الأحكام اعتمد كثيرا على القصص والأمثال إلى جانب الأدلة والحجج الأخرى اعتمادا قويا باعتبار القوة الحجاجية والتأْثيرية لهذه النماذج من الأساليب، وذلك لأن العرب نفسها كان من جملة أساليبها في الخطاب والإقناع استعمال القصة والأمثال، ولهم في هذين الصنفين أدب رفيع في الفصاحة وقوة البيان والإقناع وجمال التأثير والإمتاع قل نظيرها في الآداب الأخرى، يقول ابن عبد ربه الأندلسي (ت328هـ) في شأن الأمثال وقيمتها عند العرب ووجه ميزتها على أجناس القول الأخرى كالخطابة والشعر: “هي وشي الكلام، وحلي المعاني، التي تخيرتها العرب، وقدمتها العجم، ونطق بها كل زمان وعلى كل لسان، فهي أبقى من الشعر، وأشرف من الخطابة، لم يسر شيء مسيرها، ولا عم عمومها، حتى قيل أسْير من مثل، وقال الشاعر:
ما أنت إلا مثل سائر
يعرفه الجاهل والخابر(1)
كما اعتبرت العربُ الكلامَ الذي يصاغ على هيأة الأمثال يكون أكثر بيانا وإقناعا قال ابن المقفع (ت. 132هـ): “إذا جعل الكلام مثلا، كان ذلك أوضح للمنطق، وأبين في المعنى، وآنق في السمع، وأوسع لشعوب الحدث”(2)، فذكر الأمثال في الكلام قوة من بلاغة المتكلم ورعي لسمع المخاطب، وحرص على البيان وتقريب المعنى من أقرب الوجوه وأيسر السبل، لذلك ذكر النظام المعتزلي للمثل خصائص تلقاها من جاء بعده بالاستحسان والقبول؛ فقال: ” تجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة”(3)، وهكذا يظهر أن المثل حاز أهم خصائص القول البليغ لذلك عده النظام “نهاية البلاغة”، ولما كان المثل بهذه الصفات البلاغية كان حجة واستعمل في الكلام للإقناع والتأثير في السامع، فقال قدامة ابن جعفر: “فأما الحكماء والأدباء فلا يزالون يضربون الأمثال، ويبينون للناس تصرف الأحوال بالنظائر، والأشياء والأشكال، ويرون هذا القول أنجح مطلبا، وأقرب مذهبا، وإنما فعلت العلماء ذلك لأن الخبر في نفسه إذا كان ممكنا فهو محتاج إلى ما يدل عليه، وعلى صحته، والمثل مقرون بالحجة(4) وقد أكد كثير من القدماء على هذه الوظيفة الحجاجية والإقناعية للمثل وسرعة تأثيره في النفوس ففيه تبكيت للخصم الألد وقمع لسورة الجامح الأبي(5)، وعبر ابن القيم عن هذ البعد التأثيري بأن قال: “وفي الأمثال من تآنس النفس وسرعة قبولها، وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمر لا يجحده أحد ولا ينكره”(6)، وكما اعتبر نهاية البلاغة فقد عدت أيضا “منتهى الحجة، وموضع الحكم، وذريعة الإذعان والاعتراف”(7)، إن المثل ليس صياغة لفظية على هيئة مخصوصة في أداء المعنى فقط وإنما المثل كما قيل “هو الحجة وهو صحيح لأنه يحتج به”(8).
وبناء على هذا فالمثل أوضح في البيان وأوقع في النفس في الوعظ والترغيب، وأزجر لها في الترهيب والتنفير، وأكثر إقناعا لها في الذم والمدح، والدعوة إلى الفعل أو الترك، وأكثر تحريكا للنفوس في التحميس والإقدام، وأكثر تسكينا لها في الصلح والإحجام، وبذلك لا يستغني عن توظيف الأمثال متكلم ولا خطيب ولا واعظ ، ولا معلم ولا متكلم ، ولا محاضر ولا مناظر.
وقد ورد في القرآن الكريم استعمال القصة، واستعمال مفهوم القصص، وبيان مقصدها والحكمة منها ومن إيراده وإيراد نماذج من قصص السابقين، ففي بيان المقصد والحكمة من إيراد قصص السابقين يقول الحق جل وعلا: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون (الأعراف: 176). وقال تعالى: قَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ (يوسف: 111).
وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ (سورة هود: آية 34). وقال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِـــن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ (الأنعام: 34).
كما وصف الله جل وعلا هذه القصص التي أوحى بها لنبيه لتحقيق المقاصد السابقة بأنها الحق وأنها تتصف بالصدق وعدم الكذب ونفى عنها أن تكون مجرد أساطير أو ضربا من الخيال فقال جل وعلا تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (البقرة: 252)، وقال سبحانه وتعالى: نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (آل عمران: 62). وقال تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (آل عمران: 62)، قوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ (الكهف: 13).
ونفس الأمر يصدق على القصة في الحديث النبوي ودعوة رسول الله [؛ فقد اعتمدت دعوته على القصة اعتمادا كبيرا فقد جاءت القصة النبوية لتحقيق أغراض كثيرة فهي أولا إما بيان للقصص القرآني وتفصيل لمجمله واستثمار له في التربية والدعوة والبلاغ، وإما لأغراض التربية على قيم الصبر والثبات والحث على العمل الصالح وقول الحق مثل قصة الملك والساحر والغلام، وقصة الثلاثة الذين دخلوا في الغار، وقصة الأبرص والأقرع والأعمى، وغير ذلك من القصص التي كان الرسول يوظفها لتثبيت المؤمنين وتقوية عزائمهم وحثهم على العمل بالأخلاق الفاضلة والتزام قيم الصدق والحق والصبر والحكمة.
ثانيا: توظيف القصص والأمثال في الخطابة :
وهنا يستفاد أن الخطيب عليه -إن كان يرجو الفلاح في دعوته- أن يهتدي بمعالم الهدى المنهاجي في القرآن الكريم وسنة النبي ويستلهم مقاصد ذلك فإن أثره في الإقناع كبير.
وإذا صدق ما سبق على القصص وتوظيفها فيصدق بنفس القدر على الأمثال، بل إن للمثل وظائف بيانية وحجاجية متعددة؛ قال الحسن اليوسي رحمه الله تعالى: “إن ضرب المثل يوضح المنبهم، ويفتح المنغلق، وبه يصور المعنى في الذهن، ويكشف المعمى عند اللبس، وبه يقع الأمر في النفس أحسن موقع، وتقبله فضل قبول، وتطمئن إليه اطمئنانا، وبه يقع إقناع الخصم، وقطع تشوف المعترض وهذا كله معروف بالضرورة، شائع في الخاص والعام، ومتداول في العلوم كلها منقولها ومعقولها، وفي المحاورات والمخاطبات”(9)، و لما كان “المثل مقرونا بالحجة”(10)، وكانت “الأمثال أقرب إلى العقول من المعاني”(11) صار وقعها في العقول والنفوس كبيرا لأنه بالأمثال يمكن أن تقرب الصور الغائبة عن الذهن في شكل محسوس قابل للإدراك سهل المأخذ والتناول “فيستعين العقل على إدراك ذلك بالحواس، فيتقوى الإدراك، ويتضح المدرك”(12)، كما أنه يمكن من تغيير السلوك بعد تغيير الأفكار، وقد كان توظيف المثل في القرآن الكريم وسنة النبي [ قويا وكان ركيزة قوية من ركائز البلاغ والدعوة والإقناع، وفيه “تبكيت للخصم الألد”(13) لذلك نجد النبي [ وظف المثل لتقريب القضايا الغيبية في صورة محسوسة، وضرب المثل لبيان وظيفته ورسالته ضمن سلسلة الرسل الكرام، «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَكْمَلَهُ، إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ»(14)، وضرب المثل لبيان نماذج المتعلمين وأصناف المتلقين للدعوة قبولا وجحودا: «إِنَّ مثل مَا بَعَثَنِي اللَّهُ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ الأَرْضَ». وَقَالَ يُوسُفُ: “أَصَابَ أَرْضًا، فكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ. وَقَالَ ابْنُ كَرَامَةَ، وَابْنُ أَبِي السَّفَرِ: “أَجَادِيبُ”. وَقَالَ ابْنُ الْعَلاءِ، عَنْ يُوسُفَ: “أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فشَرِبُوا مِنْهَا، وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ، لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مثل مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ”(15).
والخلاصة أن توظيف الخطيب للقصص والأمثال والحكم في خطبه عمل محمود ومؤثر في الجمهور لأن النفس كما تستحسن العقليات الموزونة بميزان العقل الصارم وميزان الشرع العادل فإنها تستحسن ما كان جميلا ممتعا من الحكايات والأقوال، ومصوغا صياغة مسبوكة سبكا محكما، ولذلك فالقصص المروية ذات العبر والمغازي، والحكم الدالة على خلاصة التجربة الحياتية للأفراد والشعوب، والأمثال السائرة والأشعار المتضمنة لتلك الحكم والأمثال كلها ترضاها العقول، وتتلقاها النفوس بالقبول، فهي بقدر ما تقنع تمتع، خاصة إذا صادفت محلها وكانت وفق الحاجة والمقدار، إذ المهم في هذا حسن الاختيار والتعمق في فهم مدلول ما يستشهد به، ومدى مطابقته لما يستَشهَد له”(16).
ويستفاد من هذا أن الخطيب المسلم ينبغي أن يكون ريانا من القصص والأمثال المستعملة في القرآن الكريم والأحاديث النبوية ومقاصد ذلك، ومطلعا على الكتب التي عنيت بالقصص والأمثال في الوحيين، وفي التراث العربي وغيره مما يمكن أن يفيد.
د. الطيب الوزاني
——————
1 – العقد الفريد: ابن عبد ربه الأندلسي، تح: د. عبد المجيد الترحيني، ط. 1، 1404عـ ـ 1983م، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، 3/ 3
2 – الأدب الصغير: عبد الله بن المقفع، ط. 1974م، دار بيروت للطباعة والنشر. ص. 27.
3 – مجمع الأمثال: الميداني( أبو الفضل أحمد بن محمد)، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، “. 1977، عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، 1/7 ـ 8
4 – نقد النثر: قدامة بن جعفر، تح: طه حسين، وعبد الحميد العبادي، س. 1941، المطبعة الأميرية، بولاق، ص. 73 ـ 74 .
5 – الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجو التأويل:: الزمخشري ( أبو القاسم جار الله)، تح: محمد الصادق قمحاوي، ط. 1972، 1/ 195
6 – أعلام الموقعين: ابن قيم الجوزية، تح: عبد الرحمان الوكيل، ط. 1969، القاهرة، 1/291.
7 – الوسيلة الأدبية: حسين المرصفي، ط.1، 1292هـ، طبع المدارس الكلية، 2/ 64 .
8 – زهر الأكم في الأمثال والحكم،: الحسن اليوسي، 1/20
9 – زهر الأكم في الأمثال والحكم: الحسن اليوسي، تح: د. محمد حجي، ود. محمد الأخضر، ط. 1، س. 1401هـ / 1981م، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، 1/31
10 – نقد النثر، ص. 66
11 – المحاضرات والمحاورات: جلال الدين السيوطي، تح: يحيى الجبوري، ط.1، س. 1424هـ/ 2003م، ص.131
12 – زهر الأكم في الأمثال والحكم، اليوسي م. س، 1/31
13 – البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري: د. محمد أبو موسى، ط.2، س. 1408هـ/1988م، مكتبة وهبة، ص.481
14 – صحيح البخاري، وصحيح مسلم
15 – صحيح البخاري وصحيح مسلم
16 – المتحدث الجيد: مفاهيم وآليات: عبد الكريم بكار، م. س، ص. 96