لفظ الوزن ومشتقاته، من الألفاظ القرآنية التي لها خصوصية تتمثل في القوة التي وردت بها في مواضعها من آيات القرآن الكريم، حيث ارتبط هذا المصطلح في جميع موارده، وبجميع مشتقاته، بنوع قوة في وجوب الأخذ به بشكل يوحي بخطورة التساهل في أمره على مستوي الاعتقاد والعمل معا، انطلاقا من معناه المحسوس الدال على الآلة التي يوزن بها، إلى معناه المتعلق بموازين يوم القيامة التي سيقرر من خلالها مصير الإنسان، مرورا بالمعاني الأخرى التي ينبغي إقامتها في نفس الإنسان، والتي سنحاول الوقوف على بعضها في هذه السطور.
والمعاني اللغوية للفظ الوزن والميزان حددها ابن فارس في كتاب المقاييس بقوله: “الواو والزاء والنون: بناءٌ يدلُّ على تعديلٍ واستقامة: ووزَنْتُ الشّيءَ وزْناً. والزِّنَة قَدرُ وزنِ الشَّيء؛ والأصل وَزْنَة. ويقال: قام مِيزانُ النَّهار، إذا انتصَفَ النَّهار. وهذا يُوازِنُ ذلك، أي هو مُحاذِيه. ووَزِينُ الرَّأْيِ: معتدِلُه. وهو راجحُ الوَزْن، إذا نسَبُوه إلى رَجَاحة الرّأْي وشِدَّة العقْل”.
وجاء في لسان العرب: “والمِيزانُ العَدْلُ”.
أما في القرآن الكريم فقد وردت مشتقات مادة (وزن) ثلاثا وعشرين مرة بمعاني مختلفة، منها الآلة التي يوزن بها، في مثل قوله عز من قائل: وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْط (هود: 84)، ومنها موازين الأعمال يوم القيامة، في مثل قوله : فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (القارعة: 5-8). وقوله سبحانه: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (الأنبياء: 47). كما ورد اللفظ بمعنى العدل في مثل قوله تبارك وتعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ (الشورى: 15).
كما ورد مصطلح الوزن والميزان بمعنى مخصوص يوحي بما أمر به الإنسان من إقامة العدل في الدنيا، في مستهل سورة الرحمن، وخصوصية هذا الموضع تظهر من تكرار المصطلح أربع مرات، مع تأكيد قوي في أمر إقامة الميزان، وتنويع أساليبه بين الإخبار (والسماء رفعها ووضع الميزان)، والأمر (وأقيموا الوزن بالقسط)، والنهي (ولا تخسروا الميزان)، والتحذير (ألا تطغوا في الميزان)، وإذا أضفنا السياق الخاص الذي ورد فيه ذكر الميزان، تأكد لدينا أن معناه أقوى من مجرد إقامة العدل أو الوزن الذي يوازي المكيال، على أهميتهما وخطورة أمرهما.
لهذا كله كان لزاما علينا أن نتأمل الآيات التي ورد فيها مصطلح الوزن والميزان في سورة الرحمن، ونحاول استخراج إشاراتها وهداياتها.
والآيات التي ورد فيها المصطلح من بداية سورة الرحمن هي قوله تبارك وتعالى: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (الرحمن:1 – 11).
إذا رجعنا إلى التفاسير القديمة نجدها تفسر الميزان بأقوال ثلاثة جمعها الماوردي في قوله: “(وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الميزان ذو اللسان ليتناصف به الناس في الحقوق، قاله الضحاك. الثاني: أن الميزان الحكم. الثالث: قاله قتادة, ومجاهد، والسدي: أنه العدل”.
ثم فسر الطغيان في الميزان، بحسب الأقوال الثلاثة السابقة فقال: “(أَلاَّ تَطْغُواْ فِي الْمِيزَانِ) وفي الميزان ما ذكرناه من الأقاويل: أحدها: أنه العدل وطغيانه الجور، قاله مجاهد. الثاني: أنه ميزان الأشياء الموزونات وطغيانه البخس، قاله مقاتل[...] الثالث: أنه الحكم، وطغيانه التحريف”.
يتحصل مما سبق أن الميزان في سورة الرحمن يحتمل أن يفسر بالآلة التي يوزن بها والتي ذكر التشديد على العدل فيها في مواضع أخرى من القرآن الكريم منها سورة المطففين، وهو أساس دعوة شعيب .
كما يحتمل معنى العدل عموما، وهو ما يدل عليه قول ابن منظور وغيره من أصحاب المعاجم اللغوية، كما يحتمل معنى أعم من ذينك المعنيين، وهو ما يدل عليه من حيث اللغة قول ابن فارس: “الواو والزاء والنون: بناءٌ يدلُّ على تعديلٍ واستقامة”.
وهذا المعنى الأعم هو الذي يوحي به شكل ورود المصطلح في سورة الرحمن كما سبق.
قال المراغي في تفسير هذه الآيات الكريمة وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أي وجعل العالم العلوي رفيع القدر، إذ هو مبتدأ أحكامه، ومتنزّل أوامره ونواهيه لعباده، وسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحى على أنبيائه، وجعل نظم العالم الأرضى تسير على نهج العدل، فعدل فى الاعتقاد كالتوحيد، إذ هو وسط بين إنكار الإله والشرك به، وعدل فى العبادات والفضائل والآداب، وعدل بين القوى الروحية والبدنية” ثم قال في معنى النهي عن الطغيان في الميزان: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أي فعل ذلك لئلا تعتدوا وتتجاوزوا ما ينبغى من العدل والنّصفة وجرى الأمور وفق ما وضع لكم من سنن الميزان فى كل أمر، فترقى شئونكم، وتنتظم أعمالكم وأخلاقكم.ثم أكد هذا بقوله: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أي وقوّموا وزنكم بالعدل، ولا تنقصوه شيئا وفى هذا إشارة إلى مراعاته فى جميع أعمال الإنسان وأقواله”.
وقال سيد قطب:
«وَوَضَعَ الْمِيزانَ» ميزان الحق. وضعه ثابتا راسخا مستقرا. وضعه لتقدير القيم. قيم الأشخاص والأحداث والأشياء. كي لا يختل تقويمها، ولا يضطرب وزنها، ولا تتبع الجهل والغرض والهوى. وضعه في الفطرة ووضعه في هذا المنهج الإلهي الذي جاءت به الرسالات وتضمنه القرآن”.
وأما الشيخ الشعراوي، فقد توسع رحمه الله في معنى الميزان، فقارن بين الميزان الذي تسير وفقه كل عناصر الكون، والذي لا يملك الإنسان التدخل فيه، وبين الميزان الذي وضعه الله تعالى كمنهج للحياة، وخص الإنسان بضبطه والسير وفقه، يقول: “انظر إلى الكون، إنك تجد المسائل التي لا دخل للإنسان فيها مستقيمة على أحسن ما يكون، وإنما يأتي الفساد من النواحي التي تدخل فيها الإنسان بغير منهج الله. ولو أن الإنسان دخل فيها بمنهج الله لاستقامت الأمور كما استقامت النواميس العليا تماما”.
ويقول: “ليحفظ كل منا هذا القول لنعرف أن الأمور العليا موزونة لأن يد الإنسان لا تدخل فيها. إن السماء لا تقع على الأرض لأنها محكومة بنظام محكم تماماً…”
ثم يقول في موضع آخر: “فإن أردتم أن تستقيمَ أموركم فيما لكم فيه اختيار، فطبِّقوا قول الحق سبحانه: أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان، وانظروا ماذا يطلب الحق منكم في منهجه، فإنْ نفَّذتم المنهج تَسْتقِمْ أموركم، كما استقامتْ الكائنات المسخَّرة. ولا يأتي الخَلَل إلا من أننا نحن البشر نقوم ببعض الأعمال باختيارنا، وتكون مخالفة لمنهج المشرِّع، أما إذا كنا نؤدي أعمالنا ونضع نُصْب أعيننا قول الحق سبحانه: أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان فلسوف تكون أعمالنا مُطابِقة لمنهج الله، وسنجد في أعمالنا ما يَسرُّنا مثل سرورنا حين نجد الأفلاك منتظمة بدقة وحساب”.
ولذلك يخلص إلى القول: “وإذا أردتَ ألاَّ يوجد فساد في المجتمع من أيّ لَوْنٍ فابحث عن حكم الله الذي ضَيّعه الإنسان في مخالفة منهجه تجد أن ضياعه هو السبب في وجود الفساد؛ واقرأ قوله الحق في سورة الرحمن: الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان (الرحمن: 1 – 7).
ولتأكيد هذه الدلالة الخاصة، فسنعود إلى سياق الآيات الأولى من سورة الرحمن، فالله تعالى يقول: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (الرحمن 1 – 11).
فيبدأ سبحانه هذه السورة بتعريف المخلوقين بذاته من خلال صفة من صفاته وهي الرحمة، هذه الرحمة التي اقتضت تعليم القرآن، بوصفه منهجا لحياة الإنسان في هذا الكون، ومنهجا للعودة بسلام إلى الجنة التي منها انطلقت رحلته في هذا الوجود، ومحددا لضوابط تعامله مع عناصره، ثم علمه البيان ليتمكن من الفهم والإفهام بما هما عنصران أساسان للتواصل الذي تقتضيه مهمة العمران، والعمران مرتبط بطريقة حوار الإنسان مع الكون وطرق تدبير مكوناته واستثمار طاقاته من شمس وقمر ونجم وشجر، ثم يأتي ذكر الميزان والتشديد في أمر إقامته والنهي عن إخساره والتحذير من الطغيان فيه، بشكل يوحي بخطورة أمره، وأن حسن القيام به هو الضابط للعلاقة الصحيحة بين الإنسان والسماء من جهة، والإنسان والأرض بكل مقدراتها ومكوناتها من جهة ثانية.
وبهذا يمكن أن يكون للميزان معنى عام عظيم يتمثل في المنهج القرآني في إقامة الحق والعدل في الأنفس وفي الأرض موضع الخلافة، فلا نخسر الميزان، بمعنى أننا يجب أن نحقق ما نصطلح اليوم عليه بالتوازن، التوازن بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، وبين متطلبات كل من النفس والروح والجسد، والتوازن بين مطالب الفرد ومصالحه، وبين مطالب الجماعة ومصالحها، والتوازن بين العلم والعمل، والتوازن بين أشكال العبادات المختلفة، ثم بين ماهو خاص منها يتمثل في علاقة الإنسان بخالقه وبين ما هو عام يتمثل في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان.
وهذا التوازن مصدره أمران: الفطرة التي فطر الله عليها الإنسان، والوحيان المتمثلان في كتاب الله منهجا، وفي سنة رسوله تطبيقا عمليا لهذا المنهج في الحياة.
وبما أننا لم نلتفت إلى التحذير من الطغيان في الميزان ، فقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه من خسائر حصدناها وما زلنا نحصدها على مستوى العقائد والقيم الأخلاقية، ثم على مستوى صحة الإنسان النفسية والبدنية، وعلى مستوى العلاقات الاجتماعية، ثم على مستوى العمران وتحقيق النهوض الحضاري الذي حققه أسلافنا لما عرفوا الميزان وأقاموه بالقسط والحق والعدل. والله تعالى أعلم وأحكم.