القِسط في اللغة العدل، والقَسط والقسوط الجور، وقد ورد الاستعمالان من المادة في القرآن الكريم، حيث ورد من الاستعمال الثاني لفظ (القاسطون) مرتين في سورة الجن، في قوله سبحانه وتعالى: وَإنا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (14-15).
أما القسط بمعنى العدل فقد ورد ثلاثا وعشرين مرة مصدرا وفعلا واسم فاعل واسم تفضيل، إضافة إلى ورود لفظ القسطاس مرتين، وقرئ القُسطاس والقِسطاس بضم القاف وكسرها، وقد فسر بالميزان، وقد أدرجه بعض المفسرين، ممن يقول باشتمال القرآن الكريم على كلمات غير عربية، ضمن الكلمات الأعجمية الواردة في القرآن الكريم، بينما اعتبره فريق آخر لفظا عربيا مأخوذا من القسط، بالنظر إلى أن لفظ القسطاس الذي هو الميزان الغرض منه هو إقامة العدل في الوزن.
والفرق بين الاستعمالين المتضادين من المادة، يظهر في وزن الكلمة منهما، حيث أخذ الاستعمال الأول من الفعل الرباعي، بينما أخذ الاستعمال الثاني من الفعل الثلاثي، وفسر ابن منظور الفرق بين الاستعمالين بقوله: “يقال أَقْسَطَ يُقْسِطُ فهو مُقْسِطٌ إِذا عدَل وقَسَطَ يَقْسِطُ فهو قاسِطٌ إِذا جارَ فكأَن الهمزة في أَقْسَطَ للسَّلْب”.
غير أنه ذكر أنه قد يستعمل فعل (قسط) أيضا بمعنى عدل، وبذلك يستعمل بمعنى عدل قسط وأقسط، إلا أن الجور لا يأتي إلا باستعمال واحد هو فعل قسط، قال:”ففي العدل لغتان قَسَطَ وأَقْسَطَ وفي الجَوْر لغة واحدة قسَطَ بغيرِ الأَلف ومصدره القُسُوطُ”.
وجاء في مقاييس اللغة: “الْقَافُ وَالسِّينُ وَالطَّاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ وَالْبِنَاءُ وَاحِدٌ. فَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ. وَيُقَالُ مِنْهُ أَقْسَطَ يُقْسِطُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين… وَالْقَسْطُ بِفَتْحِ الْقَافِ: الْجَوْرُ. وَالْقُسُوطُ: الْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ. يُقَالُ قَسَطَ، إِذَا جَارَ، يَقْسِطُ قَسْطًا”.
واختلاف الصيغة ينفي أن يكون لفظ القسط من الأضداد، على الأقل في القرآن الكريم الذي استعمل المعنيين المتضادين بصيغتين مختلفتين.
يؤخذ مما سبق أن القَسط بفتح القاف، والقسوط مصدران لفعل قسط، الدال على الجور، واسم الفاعل منه القاسط وجمعه القاسطون، بينما القِسط هو مصدر أقسط بمعنى عدل، واسم الفاعل منه مقسط وجمعه المقسطون.
ومن استعمالات المادة في اللغة العربية القسط بمعنى النصيب، والقُسط بضم القاف بمعنى شيء كان يتبخر به، قال ابن فارس في مقاييس اللغة ذاكرا مختلف الاستعمالات للمادة: “وَمِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ الْقِسْطُ: النَّصِيبُ، وَتَقَسَّطْنَا الشَّيْءَ بَيْنَنَا. وَالْقِسْطَاسُ: الْمِيزَانُ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (الاسراء: 35). وَمِمَّا لَيْسَ مِنْ هَذَا، الْقُسْطِ: شَيْءٌ يُتَبَخَّرُ بِهِ، عَرَبِيٌّ”.
وعلاقة القسط بكل من العدل والنصيب، نستخلصها من كلام السمين الحلبي في عمدة الحفاظ عند حديثه عن القسط، إذ يشبهها بالعلاقة بين النصف والنصفة، أي الإنصاف، قال:” القسط: العدل: وقيل: النصيب بالعدل كالنصف والنصفة. والقسط -بالفتح- هو أن يأخذ قسط غيره، وهذا جور. والإقساط: أن يعطي قسط غيره، وذلك إنصاف؛ قال الراغب: ولذلك يقال: قسط الرجل: إذا جار. وأقسط: إذا عدل”.
وبالعودة إلى القرآن الكريم، فقد ورد مصطلح القسط، كما سبق، سبعا وعشرين مرة منها مرتان بلفظ القسطاس، ومرتين بمعنى القسوط الذي هو بمعنى الجور، والباقي بمعنى القسط أي العدل.
وقد اختصت سورة الجن بلفظ القاسطين بمعنى الجائرين عن الحق، أو الكافرين كما جاء في كتب التفسير، قال البغوي في تفسيره للآيتين: “(وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ) الْجَائِرُونَ الْعَادِلُونَ عَنِ الْحَقِّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا، يُقَالُ: أَقْسَطَ الرَّجُلُ إِذَا عدل فهو مقسط، وَقسطٌ إِذَا جَارَ فَهُوَ قَاسِطٌ”.
بينما ورد القسطاس مرتبطا بالوزن في مورديه معا، فقد قال الله تعالى في سورة الإسراء: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقُسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (34 – 35).
وقال عز من قائل في سورةالشعراء: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقُسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (181 – 182).
أما القسط بمعنى العدل فقد جاء مصدرا في مثل قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (آل عمران: 18)، وقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة: 9)، وقوله عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (النساء: 134).
كما ورد بصيغة الفعل في مثل قوله : لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ الممتحنة 8.
والملاحظ أنه حيثما أمر الله بالقسط، يختم الآية ببيان حبه سبحانه للمقسطين بقوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إذ وردت صيغة الجمع من اسم الفاعل (المقسطون) ثلاث مرات كلها بهذا المعنى، وهي قوله سبحانه وتعالى:
- فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (المائدة: 44).
- وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الحجرات: 9).
- لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الممتحنة: 8).
وإذا تتبعنا هذه الصيغة (إن الله يحب) و (والله يحب) في القرآن الكريم نجدها متعلقة في القرآن كله بثمانية أصناف من الناس من ضمنهم المقسطين، حيث ورد أن الله يحب المحسنين والمتقين والتوابين والمتطهرين والمتوكلين والصابرين والذين يقاتلون في سبيل الله صفا، إضافة إلى المقسطين.
ولا تخفى عظمة هذه الصفات التي يحب الله تعالى المتصفين بها، إذ هي كلها صفات دالة على درجات من الترقي في الإيمان، ولا يحصلها إلا المسلم الذي قوي تعلقه بالله تعالى، واستشعر عظمته سبحانه فكان محسنا توابا متطهرا متوكلا على الله وحده صابرا لأحكامه وأقداره، وهو مع ذلك مقسط في نفسه وأهله وما تحت يده، والقسط له مكانته من هذه الصفات بالنظر إلى صعوبة التحقق والتخلق به، ولذلك، ولا عجب، أن يحب الله المقسطين ويتفضل عليهم بمكانة خاصة يوم القيامة كما ورد في عدة أحاديث شريفة منها ما أخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، عن النبي أنه قال: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا».
السلام عليك دكتورة،
لمحاولة التفريق بين القسط و العدل، أدرجت بعض اﻷسئلة في التدوينة التالية.
https://attattbii3.blogspot.com/2021/06/blog-post.html
هلا أجبتني سيدتي عنها ؟
شكرا جزيلا