افتتاحية – العمل الجماعي روح الأمة وسبيل نهضتها


لا تولد أمة من الأمم إلا يوم يجتمع أفرادها على أمر جامع، يجمع أمرها ويوحد صفها، ويقوي لحمتها، ويدفع عنها ما يوهنها ويضعفها. وإن الله تعالى جعل لهذه الأمة أمرها الجامع في الاتباع الفردي والجماعي لدينه وإقامة أركانه والاستقامة الجماعية عليه… قال : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا (آل عمران: 103) وقال رسول الله : «تـركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما ما تمسكتم بهما؛ كتابَ الله وسنتي» (موطأ مالك).

ولم تستمر هذه الأمة في ماضيها -ولن تستمر في حاضرها- قوية في عطائها إلا بقوة إخائها وتلاحم أجزاء بنائها، وتناصر أبنائها، وتعاون عامتها وخاصتها، وتآزر أغنيائها وفقرائها، وتكامل جهود علمائها وأمرائها، وتضمانها الجماعي في المسرات والمضرات، وتفاني الجميع من أجل الجميع، وتناصح الكل بالاعتصام بالأصول الجامعة العاصمة من الفتن القاصمة.

ولا تزال سنن الله تعالى في الاجتماع البشري شاهدة بأن اجتماع الناس قوة، ووحدتَهم خير، وتفرقَهم ضعف وشر، وأن الأعمال ذات النفع العام والأصول الكلية تصونها العقول النيرة بالاتفاق عليها والتعاون على تمهيد سبلها وتحقيق غاياتها وجلب منافعها ومكرماتها. وكم أصيبت الأمة اليوم بفشل مشاريعها الكبرى ومصالحها العليا حين ضعفت فيها روح العمل الجماعي وتقاعست النفوس عن التنافس في ذلك والإبداع فيه.

فتعالوا بنا ننظر تشريعات ربنا وتكليفاته لعباده كيف جاءت بصيغة الجمع، وبمقصد الاجتماع وحفظ روح الجماعة:

فهذه أصول الدين وأركانه دعا الإسلام إليها بخطاب الجمع “يا أيها الناس”، “يا أيها الذين آمنوا” وأمر بالاعتصام الجماعي بها فقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وقال جل شأنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّة (البقرة: 208) وأمرنا جميعا أن نعبد إلها واحدا ونؤم قبلة واحدة موحَّدة وموحِّدة…

والصلاة وإن كانت واجبا عينيا إلا أن الخطاب بأدائها وإقامتها ورد بصيغة الجمع وفي الجماعة خمس مرات في اليوم ومرة في الأسبوع (الجمعة) وفي العيدين…

وهذه فريضة الصيام وإن كانت شعيرة فردية وباطنية إلا أن لها وقتا معلوما وتؤدى جماعة في شهر واحد ووقت إفطار واحد وعيد واحد…

وهذه فريضة الحج تؤدى في وقت واحد ومكان واحد وينفر الناس لها زرافات ووحدانا ويطوفون حول قبلة واحدة ويسعون ويلبون ويرمون الجمرات في صورة جماعية بديعة…

وهذه فريضة الزكاة شُرعت حقا للفقراء غايتها سد خلة الضعفاء وتقوية آصرة الإخاء بين الفقراء والأغنياء ودفع مفاسد الكراهية والحسد والبغضاء…

وهذه فريضة الجهاد لا تصح ولا تثمر إلا إذا اجتمعت الأبدان وائتلفت القلوب وتراصت الصفوف.

وهذه أعمال الخير من البناء والعمران والكسب في المعايش دعا الشرع إلى التعاون فيها والاجتماع عليها في الأفراح والأتراح، وأبدعت الأمة صورا عديدة ونماذج مجيدة في التكافل والتعاون والتناصر وتوحيد الجهود.

وهكذا فإن معظم مشاريع نهوض الأمة كانت -ولا تزال- تحتاج إلى العمل الجماعي وتكتل المجموع من تشاور الحكماء وتكاتف الجهود، وتعاضد السواعد، وتناسق الأجهزة وتكامل الوظائف. وحين تشيع ثقافة العمل الجماعي وتتشبع النفوس بروح التضامن والتكامل والتعاون -آنذاك وآنذاك فقط- ستنطلق الأمة انطلاقة سليمة وكريمة، ستتخلص من ثقل ديونها الطارفة والتليدة، وأغلال التبعية المهينة لغيرها، وستسرع في حـركة سيرها ويرشُدُ تدبير أمرها.

وإن الأمة الإسلامية اليوم محتاجة أشد ما تكون الحاجة إلى ثقافة العمل الجماعي في جميع المجالات والقطاعات والمستويات، ومحتاجة إلى إعادة تربية أبنائها على روح التعاون والتشاور والتكامل وإحياء النماذج الناجحة في التجربة التاريخية للأمة وتطويرها بحسب ما استجد من الفهوم والوسائل والإمكانات والتقنيات.

وهكذا فإن العمل الجماعي مطلوب في مجالات الحياة كلها وعلى رأسها:

- مجال التربية والتعليم: وذلك بأن يتعاون أرباب المال مع أرباب العلم والخبرة، ويتعاون الكل مع الكل أسرة ومجتمعا ومؤسسات في سبيل النهوض بهذا القطاع الذي تملك فيه الأمة إمكانات إيجابية مهجورة وطاقات  مبدعة مهدورة وفرصا موفورة.

- ومجال البحث العلمي: مجال يحتاج إلى كثيرا من الاجتهاد الجماعي لأن التشاورَ بين العلماء أكثر إفادة، والعملَ وَفْق نظام فرق البحث أكثر إثمارا، والتنسيقَ بينها من أجل التكامل أكثر رشدا وسدادا.

- ومجال الاقتصاد والكسب: لما تتوفر عليه الأمة من ثروات طبيعية أوسع وأرحب، وأغنى وأطيب، لكنها ظلت نهبا لغيرها وحقا لسواها تحتكره النفوس المريضة بالظلم والاستبداد وكراهية الخير والحرية للعباد.

- ومجال التدبير السياسي: يشوبه الفشل لأن كثيرا من المشاريع أجهضت بسبب اختلاف الآراء والتعصب للفكرة ولو كانت باطلة، والانتصار للقبيلة ولو كانت عن الحق نائية. وما تخلفت القطاعات العامة ولا تعطلت أو تأخر إنجاز الأعمال الكبرى في دولنا المسلمة إلا لافتراق كلمة المشاركين في التدبير العام، وتآكلهم وعدم تكاملهم، واختلافهم على المصالح العليا.

- ومجال العلاقات الدولية: لأنه مجال تبرز فيه الحاجة أكثر إلى التحالف وعدم التخالف، وإلى التعاون والتكامل لأن ساحة العلاقات الدولية لا تثبت فيها قدم من كان جسمه مفرقا ولا يستمر في التفاعل البناء من ظل منعزلا. والأمة المسلمة محتاجة اليوم إلى اجتماع كلمة بلدانها وشعوبها، وتعاون دولها على مصالحها المشتركة.

إن الحاجة إلى إحياء العمل الجماعي والتعاون عليه حاجة ملحة من صميم إحياء ديننا وإحياء وجودنا الحضاري وقيمنا الإيجابية، ولن تنهض هذه الأمة وهي تخرق سنن الله تعالى في العمل الجماعي، ولن تدرك بحبوحة الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة إلا بالانخراط الإيجابي والفعال في العمل الجماعي والنأي عن الأنانية والفردانية المفرطة وصدق رسول الله  حين قال: «… عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة… من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة». (صحيح رواه الترمذي).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>