قبسات عن مكانة الفتوى في الإسلام: شواهد من القرآن والسنة وحياة الصحابة


تقديم:

لا شك أن كثرة النوازل المستجدة التي تحيط بحياة الناس، تستدعي معرفة أحكامها الشرعية حتى يكون المسلم على بينة من دينه، “فخلو المجتمع من المفتين يجعل الناس يسيرون وفق أهوائهم ويتخبطون في دينهم خبط عشواء فيحلون الحرام ويحرمون الحلال ويرتكبون المعاصي من حيث يعلمون أو لا يعلمون”(1).

إن حاجة المجتمع إلى الإفتاء ليست أقل من حاجته إلى ضرورات الحياة الأخرى، خاصة وأنها تعمل على أشرف مقام في نفس الإنسان وعقله وهو مقام الدين.

فالفتوى من الخطط الشرعية التي اهتم بها علماء الإسلام وحاصروها بسياج من العناية لتوقف حياة المسلمين عليها، وعليها تقوم مصالحهم وبها يهتدون في شؤون دينهم ودنياهم من عبادات ومعاملات وسلوك وأخلاق، وبها تنتظم حقوقهم وترعى مصالحهم.

إن الناس حالما تحل بهم الملمات وتنزل بهم الأمور وتداهمهم المعضلات وتكثر بينهم النزاعات وتحدث لهم الخصومات وتختلط عليهم الحقوق وتتجاذبهم المصالح ينزعون إلى المفتي.

ولعظمة شان الفتوى في حياة الناس تولاها رب العالمين، والشواهد من القرآن الكريم كثيرة، يقول عز وجل: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ(2) ويقول عز وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ  قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ (3).

وتولاها الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان المسلمون يسألونه ويفتيهم، يقول عز وجل: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (4).

وقد كان نبي الله  في إنزاله التعازير بالمخالفين يدرس شخصية المعزر ومدى تمكنه من المعصية والمخالفة ومدى شعوره بالندم قبل تطبيق حكم الله فيه.

ويسأل عن الشيء الواحد من الفردين المتغايرين فيفتي كلا حسب ما يصلح حاله ويقيم همته وينفعه دنيا وأخرى، من ذلك أنه لما سئل عن قبلة الصائم زوجته فأجازها للسائل الشيخ ومنعها عن الشاب (5).

قال ابن عقيل رحمه الله: “ويزن بمعارف الرجال كما وزن النبي  الشاب والشيخ في سؤالهما عن القبلة في الصوم، فأمر الشيخ بجوازها والشاب بالنهي عنها، وكذلك رخص السفر لا يفتي بها أجناد وقتنا لمعرفتنا بأسفارهم، فهذا وأمثاله وأمثاله لا يحصل إلا بمعرفة الناس، فمتى لم يكن الفقيه ملاحظا لأحوال الناس عارفا لهم وضع الفتيا في غير موضعها” (6).

فالفتاوى المأثورة عن السابقين من الأسلاف تحتضن بين طياتها مراعاة أمينة لخصائص تلك البيئات التي كانوا يعيشون فيها ، وتلخص سمات تلك البيئات الإجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية .

والفتوى وظيفة العلماء، يقول عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(7)، فالله أمر “برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه  وليس لغير العلماء كيفية الرد إلى الكتاب والسنة، ويدل هذا على صحة كون سؤال العلماء واجبا وامتثال فتواهم لازما”(8).

فالذي يجهل حكم الله في نازلة من النوازل مأمور بأن يسأل عن حكم الله تعالى، قال الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(9).

وكما أوجب على الجاهل أن يسأل، أوجب على العالم أن يبين للناس ولا يكتم ما عنده من علم، وإلا لحقه عذاب الله كما هو في الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ(10).

نقل أبو عمر رحمه الله عن الحسن البصري رحمه الله ما نصه، “ست إذا أداها قوم كانت موضوعة عن العامة، وإذا اجتمعت العامة على تركها كانوا آثمين: الجهاد والفتيا وغسل الميت والصلاة عليه والصلاة في الجماعة وحضور الخطبة”(11).

وممن اشتهر بالإفتاء من الصحابة رضوان الله عليهم ، سيدنا عمر بن الخطاب وعلى بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم.

وقد جمع العلامة جلال الدين السيوطي رحمه الله أسماء الصحابة الذين كانوا يفتون على عهد رسول الله في بيتين فقال:

وقد كان في عصر النبي جمــاعة

يقومون بالإفتاء قومة قـــانت

فأربعة أهل الخـــــلافة معهـــــم

معاذ أبي وابن عوف وثــــابت (12)

فعبد الله بن عباس  جمعت فتاواه في عشرين مجلدا، جمعها أبو بكر بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون حسب ما صرح بذلك العلامة ابن حزم في كتابه (13).

وذكر صاحب التراتيب الإدارية أن سيدنا عبد الله بن عمر أفتى في الإسلام ستين سنة(14).

وذكر ابن القيم أن الحسن البصري جمعت فتاويه في سبعة أسفار ضخام (15).

وكذا شهاب الدين الزهري جمعت فتاويه في ثلاثة أسفار ضخمة على أبواب الفقه (16).

ويذكر ابن حزم أن محمد بن مسلمة المخزومي له ديوان كبير جدا في الفتاوى (17).

وذكر الونشريسي في المعيار نقلا عن الباجي: “وقد جمع عمر الإشبيلي أقوال مالك خاصة دون أصحابه في كتاب كبير زاد على مائة جزء قرئت بعضه.

فكتب الفتاوى التي خلفها الأسلاف تعد تراثا علميا زاخرا يجب على من يتصدى للفتوى في وقتنا المعاصر الإستفادة منها، خصوصا الأدوات المنهجية التي كان يوظفونها للوصول إلى الأحكام.

وقد كان منهج الصحابة يعتمد على معالجة القضايا المستحدثة التي تفرض نفسها عليهم دون أن يتجاوزوا ذلك إلى افتراض ما يمكن أن يقع في المستقبل، لأن الاجتهاد الذي يربط الحكم بإمكانية التطبيق الواقعي يكون أكثر قدرة على الدوام والاستمرار وأكثر ملائمة ومناسبة للمجتمع (19).

وسار التابعون على ما سار عليه الصحابة الكرام مقتفين أثرهم مسترشدين بنهجهم متشاورين في أقضيتهم ونوازلهم، فكان فقهاء التابعين يتخرجون على يد فقهاء الصحابة، فقد التف حول كل فقيه من فقهاء الصحابة أو حول كل طائفة في مصر من الأمصار جماعة ممن قصدوا التفافهم حوله أن يسلكوا مسلكه، وأن يتعودوا على طريقته، وأن يتخرجوا بالوصول إلى غايته في مقدرته على الإفتاء وتقرير الأحكام الفقهية، فتخرجوا عمليا بالمخالطة والممارسة، أثر فيهم انطباع السلائق والطباع، وقد تكونت فيهم ملكات من هذه المخالطة والممارسة بمقتضاها، فأصبح كل واحد يستطيع الفتوى ويتمكن منها على نحو ما كان قدوته يستطيع الفتوى ويتمكن منها (20).

خلاصة:

هذا يدل على أن الفتوى مما اعتنى به المسلمون الأولون عناية فائقة، ما دام الناس محتاجين لمعرفة أمور دينهم ودنياهم، وإن كانوا يتحرجون من الفتوى ويتهربون منها، ويكرهون التسرع فيها ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره.

إلا أنهم رضي الله عنهم مهما نزلت بهم نازلة لجأوا إلى الشورى فلم تصدر الفتوى والحكم إلا عن تبصر وحكمة، وبذلك قلما يبقى الخلاف، بخلاف الزمن النبوي الذي كان الخلاف فيه معدوما، وبخلاف عصر من بعدهم الذي كثر الخلاف فيه لانعدام الشورى في غالبه، فمجلس أبي بكر وعمر وعثمان وعلي كان مجلس تشريع وفقه واستنباط ومشاورة، وخصوصا الأولان منهم (21).

ذة. مريم درقاوي

———————-

1 – الفتيا ومناهج الافتاء، محمد سليمان الأشقر ص 28.

2 – سورة النساء الآية 126.

3 – سورة البقرة الآية 188.

4 – سورة النحل الآية 44.

5 – نيل الأوطار، الشوكاني، ج: 4، ص: 210.

6 – الواضح في أصول الفقه، ابن عقيل، ج: 5، ص: 463.

7 – سورة النساء الآية 59.

8 – الجامع لأحكام القرآن القرطبي 260/5.

9 – سورة النحل، الآية: 43.

10 – سورة البقرة، الآية: 159.

11 – التاج والإكليل، ج: 3، ص: 143.

12 – أدب الفتيا، جلال الدين السيوطي، ص: 70.

13 – إحكام الأحكام، ج: 2، ص: 666.

14 – إحكام الأحكام، ص: 435.

15 – إعلام الموقعين، ابن القيم، ج: 1، ص: 19.

16 – إحكام الأحكام، ج: 2، ص: 669.

17 – إحكام الأحكام، ج: 2، ص: 669.

18 – المعيار المعرب، ج: 6، ص: 358.

19 – المدخل للتشريع الإسلامي، ص: 113.

20 – المحاضرات المغربيات، ص: 63.

21 – الفكر السامي، ج: 1، ص: 260.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>