الخطبة الأولى:
….
عباد الله: ونحن نبحث عن مِفْتَاحَ العبودية لله نجد أسلافنا من عباد الله الصالحين ينصحون بأن سرَّها يكمن في العلم بأسماء الله وصفاته، فأسماؤه وصفاته حسنى وعليا، وفي كل اسم وصفة نلمس عبودية خاصة، والله تعالى يحب أسماءَه وصفاته، كما يحب ظهور آثاره في خلقه، فأمرنا أن نتودد إليه وأن نتضرع إليه بها: وَلِلَّهِ الْاسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا (الْأَعْرَافِ: 180)، ومن تعبَّد اللهَ بصفاته أدخله في رحمته.
ومن أحصى أسماءه أسكنه فسيح جناته.
عباد الله: (الحيي) اسم من أسماء ربنا الكريم، والحياء صفة من صفاته، وصفه لنا رسولُه الكريم فقال: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ» (رواه أبو داود).
أيها المؤمنون إن ربنا يستحيي أن يَرُدَّ دعاء عباده المؤمنين، قال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا» (رواه أبو داود).
هذه المعاني لخصها ابن القَيِّم رحمه الله تعالى فقال: “حياء الرب تعالى من عبده لا تُدركه الأفهامُ ولا تكيِّفه العقولُ؛ فإنه حياء كَرَم وبِرّ وجُود وجلال، ورأس مكارم الأخلاق في الخَلْق وأجَلُّها وأعظمها قدرًا وأكثرها نفعًا الحياءُ، وهو خُلُقٌ يَبعث على ترك القبائح ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق، مبعثُه ومادتُه من الحياة، وعلى حسب حياة القلب يكون الحياء فيه، وكلما كان القلب أَحْيَا كان الحياء فيه أَتَمَّ وأقوى، ولم يزل أمرُ الحياء ثابتًا واستعماله واجبًا منذ زمان النبوة الأولى، وما من نبي إلا ندَب أمته إليه وبعث عليه، قال : «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» (رواه البخاري)،
عباد الله: الحياء خلق الأخيار والصالحين من عباد الله المخلصين، وقد مدح الله أهله؛ فالملائكة المقربون والرسل الكرام المصطفون والأتباع المقتفون كلهم لهم من الحياء نصيب، قال في عثمان : «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ؟» (رواه مسلم).
ووصف موسى بأنه حيي فقال: «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ» (رواه البخاري).
ونبينا محمد له من ذلك النصيب الأوفر، فحياؤه يُعرف في وجهه، قال أبو سعيد الخدري : “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ َ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا؛ أي: من البكر في سترها وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ” (متفق عليه).
وسوَّى ثيابَه، فسُئِل عن ذلك فقال: «إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ، وَإِنِّي خَشِيتُ إِنْ أَذِنْتُ لَهُ، وَأَنَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، أَنْ لاَ يَبْلُغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ» (رواه مسلم).
والمرأة فطرت على الحياء، تتزين به وتتجمل، وهو لها بمثابة الحصن الحصين،
فهذه إحداهن جاءت تمشي وقد استترت بلباس الحياء، خلد القرآن الكريم ذكرها وسرد لنا قصتها فقال: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لنا (الْقَصَصِ: 25)، وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها منعها حياؤها أن تنزع خمارها في حجرتها حياءً من عمر بعد دفنه، لنستمع إليها وهي تحكي قصتها مع الحياء، لنستمع إليها وليبلغ الحاضر منا الغائب، لنستمع إليها ولنضع أنفسنا وبناتنا وزوجاتنا في ميزان أُمِّنَا لعلنا نعود إلى رشدنا ونلتزم حدود ربنا،.. قالت رضي الله عنها: “كنتُ أدخل بيتي الذي دُفِنَ فيه رسول الله وأبي، فأضع ثوبي فأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دُفِنَ عمرُ معهما فو الله ما دخلتُ إلا وأنا مشدودة عليَّ ثيابي حياءً من عمر” (رواه أحمد).
قال ابن عباس رضي الله عنهما لعطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى: “أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ لِي، قَالَ: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكَ»، فَقَالَتْ: بَلْ أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ لِي أَنْ لا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا” (متفق عليه).
هذا حياء أسلافنا فأين بناتنا ونساؤنا من حياء الطاهرات العفيفات من سلف الأمة؟
عباد الله: الحياء من الأخلاق الكريمة التي بقي عليها أهل الجاهلية، تجلى ذلك عند أبي سفيان لَمَّا سأله هرقل عن النبي وهو يومئذ على الكفر: «وَاللهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ أَنْ يَأْثُرَ أَصْحَابِي عَنِّي الْكَذِبَ كَذَبْتُ عَنْهُ حِينَ سَأَلَنِي عَنْهُ، وَلَكِنِ اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَأْثُرُوا الْكَذِبَ عَنِّي فَصَدَقْتُهُ» (متفق عليه) درس بليغ لكل الناس….
فأين وسائل إعلامنا عندما يروجون الكذب والبهتان ويدعمون أصحاب المصالح والأموال.؟
وأين أصحاب الأحزاب عندما يتراشقون بالتهم صحيحها وسقيمها؟
وأين شهود الزور ؟
وأين أصحاب المناصب عندما يتحكمون في رقاب الناس؟
أين كل هؤلاء وغيرهم من خلق الحياء؟
إذا لم تستح فاصنع ما شئت…
عباد الله: بالحياء تُنال السعادةِ وتُدركُ أسبابها، وهو خير كله، قال عليه الصلاة والسلام: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ، أو قال: الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ» (رواه مسلم)،
عباد الله: إن عاقبة صاحب الحياء لا تكون إلا إلى الخير، ولا يلحقه ندم فيه البتةَ، قال عليه الصلاة والسلام: «الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ» (رواه مسلم)، قال ابن القيم رحمه الله: “الحياء مادة الحياة للقلب، وهو أصل كل خير، وذهابه ذهاب الخير أجمعه”… ومر النبي على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنك لتستحي حتى كأنه يقول: قد أَضَرَّ به، فقال رسول الله : «دَعْهُ؛ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ» (متفق عليه).
وما عاقب اللهُ قلبًا بأشدَّ من أن يسلب منه الحياء، قال ابن عمر رضي الله عنهما: “إن الحياء والإيمان قُرِنَا جميعا فإذا رُفِعَ أحدهما رُفِعَ الآخر”.
خلق الحياء طاعة تسوق صاحبها إلى طاعات وتقود صاحبها إلى الورع، ومن أَخَلَّ بالحياء فعَل نقيضَ ذلك.
عباد الله: الحياء يحول بين المرء وبين الوقوع في المعاصي، والمستحيي ينجيه الله تعالى بالحياء من الوقوع في المعاصي كما ينجو بالإيمان ويُعصم منها، فإذا سُلِبَ من العبد الحياءُ لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح والأخلاق الدنيئة، قال عليه الصلاة والسلام: «إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ» (رواه البخاري).
عباد الله: الحياء زينة وجمال تظهر على صاحبه، قال : «مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ، وَلاَ كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ» (رواه الترمذي)، ورأس الحياء ما كان حياء من الله؛ لئلا يرانا حيث نهانا ولا يفتقدنا حيث أمرنا؛ فالله أحق أن يُستحيا منه، قال عليه الصلاة والسلام: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» (رواه الترمذي)،
أيها المؤمنون: إذا علمنا بنظر الله سبحانه إلينا وعلمنا بأنه يسمع كلامنا ومناجاتنا إذا حصل لنا اليقين بهذا استحيينا أن نتعرض لمساخطه.
عباد الله: معنا في كل حركاتنا وسكناتنا ملائكة لا تفارقنا، ومن حُسن إكرامهم الحياء منهم، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (الِانْفِطَارِ: 10-12)، قال ابن القيم رحمه الله: “أي: استحيوا من هؤلاء الحافظين الكرام وأكرموهم وأَجِلُّوهم أن يروا منكم ما تَستحيون أن يراكم عليه مَنْ هو مثلكم”.
الخطبة الثانية:
عباد الله: الحياء من الناس باعث على الفضائل، ولو أن المسلم لم يُصِبْ من الجليس الصالح إلا أن حياءه منه يمنعه من ارتكاب المعاصي لكفى، وهو خير عون لصاحبه على الحياء من الله، وَمَنْ لا يستحيي من الناس لا يستحيي من الله، ومن جالس أهل الحياء تجدَّد حياؤه، ومن عمل في السر عملا يستحيي منه في العلانية فلا قَدْرَ لنفسه عنده، ومن استحيا من الناس ولم يستحي من نفسه فنفسه أهون عنده من غيره، ومن استحيا منهما ولم يستحي من الله فما عرف ربَّه، ومن كساه الحياء ثوبَه لم ير الناسُ عيبَه.
عباد الله: إن الإسلام هو دين المحامد والمكارم، جمع من الأخلاق أحسنها، ومن الأوصاف أعلاها، ما من خير إلا أمر به، وما من شر إلا حذَّر منه، وحتم علينا ملازمة الحياء من الله بامتثال أوامره واجتناب معاصيه.
عباد الله: الحياء الممدوح من النبي هو الخلق الذي يحمل على فعل الجميل وترك القبيح، أما الضَّعْف والعجز الذي يُوجب التقصيرَ في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده فليس من الحياء في شيء، وإذا مَنَعَ صاحبَه من خير لم يكن ممدوحًا، قالت عائشة رضي الله عنها: “نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَسْأَلْنَ عَنِ الدِّينِ وَيَتَفَقَّهْنَ فِيهِ” (رواه مسلم).
اللهم جملنا بالحياء….