تقديم: في الحلقة الأولى تناول الكاتب مختلف التعريفات التي أعطيت لمفهوم الواقع الدولي وإشكالاتها، ووقف عند أهم خصائص هذا الواقع الثابتة والمتغيرة؛ إيديولوجيا وسياسيا واقتصاديا وعلميا وعسكريا التي منحت للدول الكبرى إمكانات السيطرة والتحكم في مصائر الدول والشعوب وخيراتها وثرواتها المادية والبشرية وإدارة العلاقات الدولية وفق مصالح الكبار. ويواصل في هذه الحلقة الحديث عن مكوناته وآليات اشتغاله وآثار ذلك على اختلال ميزان العلاقات الدولية.
ثالثا- مكوناته:
يتكون الواقع الدولي من مجموعة من المكونات الفاعلة والمنفعلة، القوية والضعيفة، ويهمنا الآن الوقوف على المكونات الفاعلة في السياسة الدولية ومجرياتها. وعلى رأس ذلك ما يأتي:
1 – الدول المستقلة: إذ تعتبر الدولة من أهم مفاهيم النظام الدولي وواحدة من أبرز مكوناته، سواء أكانت دولا كبرى أم متوسطة أم صغيرة. ولا تنشأ دولة من الدول أو تتأسس إلا باعتراف المجموعة الدولية الفاعلة.
ويشار هنا أن الواقع الدولي يشهد تفاوتا واضحا بين دوله من حيث القوة والفاعلية، وتعتبر الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن هي الدول الأقوى عالميا والأكثر تأثيرا في صنع السياسات الدولية وتليها دول من الصنف الثاني ثم دول ضعيفة تتأثر ولا تؤثر.
2 – المؤسسات الدولية الكبيرة: كمنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وقوات الطوارئ الدولية والمؤسسات المالية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والبنوك المركزية الإقليمية والاتحادات الدولية الكبيرة اقتصاديا أو سياسيا أو عسكريا، أو غير ذلك. (الاتحاد الأوروبي- الحلف الأطلسي- الاتحاد الإفريقي- منظمة التجارة العالمية..)
وبالرجوع إلى سياق ظهور هذه المؤسسات الدولية وأهدافها والمتحكمين فيها يظهر أن لها تأثيرا كبيرا في مجريات النظام الدولي تثبيتا لأسسه وتحقيقا لأغراضه، وطردا لكل ما ينافيه ويعارضه.
3 – الأحلاف والتكتلات الدولية: كالتي سبقت والإقليمية سواء أكانت تكتلات سياسية أو اقتصادية أو إعلامية أو غير ذلك ويكون تأثيرها دوليا بقدر قوة أعضائها.
4 – الشركات الاقتصادية الكبرى العابرة للحدود والقارات: وهي جزء رئيس من الفاعلين الدوليين وتكمن أهميتها في أنها تفوق الدول من حيث القدرات والاختصاص ولها تأثير سياسي واقتصادي كبير وواضح على سياسات الدول داخليا وخارجيا.
5 – المنظمات الحقوقية المحلية والدولية والمرتبطة بشبكة النظام الدولي ومؤسساته: وهي منظمات كان لها دور كبير في نشر الثقافة الحقوقية في مختلف مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفردية والجماعية، والدخل لحماية الأقليات المضطهدة، كما كان لها أثر في إحداث التحولات في كثير من المجتمعات. إلا أن أهم المؤاخذات عليها أنها تسعى إلى تثبيت إيديولوجيات النظام العالمي وثوابته المعرفية والفكرية والتمكين لكونية الفكر السياسي الدولي المتحكم في رقاب الدول والشعوب دون مراعاة لخصوصيات المجتمعات في معتقداتها وتشريعاتها، كما وظفت توظيفا مزدوجا من قبل صانعي القرار الدولي لابتزاز الأنظمة والحكومات الضعيفة وتشويه المخالفين في الساحة الدولية.
رابعا – مستجدات الواقع الدولي:
رغم أن واقع السياسات الدولية تحكمه ثوابت شبه قارة إلا أنها مع ذلك تخضع لسنة التطور والتجدد وسنة التداول؟ لذلك يلاحظ بروز طائفة من الظواهر بدأت تطبع الواقع الدولي بسمات جديدة منها:
أ- عولمة المشكلات والقضايا التي تواجهها الجموع البشرية: مثل الحروب المحلية، والحروب الإلكترونية، والفقر والتخلف والتلوث البيئي والتزايد السكاني وغيرها كثير، حيث لم تعد نتائج هذه المشكلات تقتصر على دولة محددة أو مجموعة دول، وإنما يتعدى ذلك إلى دول أخرى بعيدة جغرافيا.
تراجع مكانة الدولة في العلاقات الدولية بفعل مجموعة من التحديات أبرزها:
- بروز فاعلين أقوياء في شبكة التفاعلات الدولية: الشركات المتعددة الجنسية، المنظمات الإقليمية والدولية، المنظمات غير الحكومية، والمنظمات السياسية والاقتصادية والإعلامية والبيئية العابرة للحدود…
- التحول في سلوك المنظمات الدولية، فقد كانت المنظمات الدوليــة في السابق عبارة عن مؤسسات تابعة للدولة القومية، أما الآن فقد غدا للمنظمات الدولية وجود متميز ومستقل عن إرادات الدول المنشئة أو الحاضنة لها. وليس أدل على ذلك من إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1991م الذي أيد التدخل الإنساني من دون طلب أو حتى موافقة الدولة المعنية كما حدث من استخدام القوة لمصلحة “السكان المدنيين” في الصومال.
- التحول الكبير الذي طرأ على مفهوم السيادة للـدولة القومية، حيــث أنهت الاختراقاتُ الثقافية والإعلامية لتكنولوجيا المعلومات الوظيفة الاتصالية للدولة، ما جعل من نظرية سيادة الدولة نظرية تكاد تكون خالية من المضمون.
وقد شكل غياب التضامن القومي وتشتت ولاء المجتمع الداخلي للدولة أحد المحددات الرئيسة في حركة الدولة على الصعيد الخارجي وبالتالي بروز فاعلين آخرين على الساحة الدولية.
- تزايد الأصوات الرافضة للتحكم الدولي في صورته الحالية، والرافضة لمآلات سياسات دوله الكبرى في الهيمنة الدولية والتحكم في المجال العلمي والتقني والاقتصادي والثقافي والتدخل المباشر في النزاعات والمعايرة بمكيالين.
ب- خفوت تأثير النخب السياسية التقليدية وظهور التيارات الشعبوية، وتأثير مواقع التواصل الاجتماعي التي خرجت في الظاهر عن الصورة التقليدية للأحزاب والبنية السياسية لمفهوم الدولة والحزب، وأصبحت هذه الظاهرة تؤثر بشكل ما في توجهات السياسات المحلية والعالمية معا وتزحزح عن الحكم كيانات تاريخية وتخرج الديمقراطية إلى نتائج لا ترضي المؤسسات التقليدية الفاعلة (نموذج ترامب، وفرنسا، وبريطانيا، ….).
ج- الحرب على الإرهاب: أصبح الواقع الدولي في نهاية القرن الماضي وبداية الحالي يشهد نمو ظاهرة الإرهاب السياسي المنظم من قبل توجهات سياسية تعددت أسباب وجودها ونموها، وتوسعت الظاهرة (إرهاب ديني/ سياسي/ اقتصادي، محلي/ دولي، مادي/ إلكتروني…) وتعدت حدود الدولة الوطنية إلى التأثير في المحيط الإقليمي والدولي معا. وأصبح الإرهاب بجميع أنواعه وأحجامه مؤثرا في واقع العلاقات الدولية وإفرازاته وسواء أساهمت الدول الكبرى في تغذيته بسلوكات الظلم والهيمنة أم بتمويلها واستغلال منظماته في تحقيق أهدافها في توجيه السياسات الداخلية والخارجية للدول الصغار والتأثير في التحالفات الإقليمية والدولية وتوجيهها فيبقى الإرهاب الدولي واقعا يطبع العلاقات الدولية ويؤثر أحيانا في تغيير الخرائط السياسية وتغيير موازين القوة والتأثير على حالتي السلم والحرب…
ويعتبر العالم الإسلامي أكبر متضرر من الاستخدامات السيئة والمغرضة لهذا المفهوم.
وإن الاتهام بالإرهاب كاف لإسقاط نظام قائم بذاته وإلغاء الانتخابات ولو كانت نزيهة وتغيير والحكومات، وإبعاد تيارات وحركات وأحزاب ذات مصداقية شعبية في أوطانها بله الأفراد والمجموعات صغيرة، أو إدامة الصراع والتنافس الدولي.
د- عودة التعددية القطبية في الواقع الجديد الذي ظلت تقوده الولايات المتحدة الأمريكية لوحدها منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، فبدأت تظهر على المسرح الدولي قُوىً دولية جديدة كالصين واليابان ونمور شرق آسيا، والهند ومؤسسات مالية جديدة قد يكون لها تأثير في الواقع الدولي المستقبلي القريب أو البعيد.
خامسا- من عيوب النظام الدولي المعاصر ونقائصه:
ظل الواقع الدولي الذي تحكمت فيه المركزية الغربية ومصالحه الإيديولوجية والاقتصادية والعسكرية تشوبه عيوب كثيرة؛ بعضها مزمن وبعضها عارض، وبعضها بنيوي، وبعضها سطحي، ومن أبرزها ما يلي:
- إفلات الدول الدائمة العضوية وحلفائها من العقاب، مع العلم أن أكبر الجرائم التي تستحق اسم جرائم حرب ضد الإنسانية وأكبر انتهاكات حقوق الإنسان تصدر من جهة هذه الدول وحلفائها.
- الإفراط في استعمال القوة بجميع أنواعها وأعلى صورها القوة المادية والعسكرية في تدمير المخالفين والقضاء عليهم.
- التحكم المطلق في الأسرار العلمية القمينة بإنقاذ الدول والشعوب من تخلفها وجهلها وأمراضها، إذ لا يزال العمل بالتقسيم الدولي للشغل ساريا المفعول وسيفا مُصْلَتاً على رقاب الدول، وبسبب ذلك تحرم الدول من حقها في البحث العلمي في النوويات وأشباهها ولو لأغراض سلمية وإنسانية.
- تغليب مصلحة الكبار في كل العلاقات الدولية السلمية والحربية.
- التدخل السافر في الشؤون الداخلية للبلدان الضعيفة بدءا من إقامة الأنظمة إلى تزكية ومباركة الأحزاب والنقابات وجمعيات المجتمع المدني إلى تحديد طبيعة النظام الاقتصادي والتعليمي والإعلامي وغير ذلك.
- القضاء على خصوصيات الأفراد والجماعات والدول في العيش وفق شروطها الذاتية ومقوماتها الحضارية، وتفكيك الهوية الواحدة إلى تعددية واختلاف (إديولوجي/ عرقي/ اقتصادي…)؛ مما جعل كثيرا من الدول والشعوب تعاني من ضمور خصوصياتها وانقراض هويتها وذوبانها في تيار العولمة الجارف وتحكم الأقوياء…
- مساندة فساد الأنظمة الحاكمة والحكومات والمنظمات الدولية ما دامت تخدم مصلحة الكبار.
- المعاملة بمكيالين: في مسائل عديدة كحق تقرير المصير، والأقليات، والديمقراطية والاستبداد، وفي التقارير الدولية عن حقوق الإنسان اتهاما وإشادة…
- اختلاق الأزمات وافتعال المشكلات وإشعال حروب بالوكالة مما يجعل الخاسر الأكبر هو الدول الضعيفة.
- التحكم في ثروات البلاد المادية والبشرية؛ أحيانا عبر عقود ومعاهدات مجحفة أو عبر إملاءات أحيانا أخرى.
- التحكم في تشكيل الحكومات والأنظمة المحالفة للفاعلين الدوليين الكبار.
- تشكيل تحالفات إقليمية ودولية غايتها محاربة التوجهات الإسلامية.
- تشجيع التوجهات الدائرة في فلك المركزية الغربية علمانية وتبشيرية واقتصادية …
خاتمة: خلاصات ونتائج
يتبين مما سبق أن النظام الدولي الذي تشكل منذ قرون سابقة ظل نظاما تحكمه بعض القواعد والمحكمات الثابتة التي وجهت سياساته نحو القوة والهيمنة وسن قوانين تضمن مصلحة الكبار، وأحدثت اختلالات في نظام العلاقات بين البشر، كان أسوؤها الحروب المدمرة، والتدخلات المباشرة وغير المباشرة.
وإن تأثيراته على البشرية ظلت على الدوام سلبية وفيها ظلم كبير في حق الشعوب والدول.
ولما كنا أمام واقع بشري تحكمه النسبية والتغير وتتفاوت فيه موازين القوة بحسب قوة الفعل البشري والإرادة فإن هذا النظام ليس قدرا مقدورا وليس حتما لازما، وإن بقاءه وزواله يخضع لسنن الله تعالى في تداول الأيام والدول كما قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ (آل عمران: 140)، وينبئنا التاريخ وسننه أنه لم يكتب لواقع دولي الثبات والخلود.
وإن فقه الواقع وَفْق الرؤية القرآنية لمفهوم الحياة وسننها في التدافع وإقامة الدين والعمل به، وإقامة العدل في الأرض من شأنه أن يصلح ما فسد في واقعنا الدولي.
كما يتبين مما سبق أن الواقع الدولي في صورته التقليدية وفي صورته الجديدة يسير في اتجاه معاكس لإرادة الشعوب الضعيفة ولطموحاتها التحررية من الجهل والفقر والتبعية الذليلة. لكونه نظاما نشأ في أحضان القوة والهيمنة وتضخم المركزية الغربية ونفي الآخر، والتمرد على الله تعالى أولا وعلى شريعته ثانيا، تلك القوة وذلك التمرد هما اللذان نتج عنهما كل مظاهر الفساد في هذا الواقع؛ فساد في قوانينه ومؤسساته وفي معاهداته، وفي علاقاته المبنية على الظلم وتغليب مصلحة الأقوياء، عقديا وسياسيا واقتصاديا..