معالم الرقي الحضاري في السنة النبوية (5)


الذوق السليم

 

2 – الذوق السليم في السمت الحسن وزينة اللباس:

إذا كان الإسلام دين الصفاء والنقاء، كما سبق تقريره، فإن شريعته لا تريد للمؤمن إلا أن يُرى في أكمل صورة وأبهى منظر يحبه الله  من عباده. لذلك شرع لنا الإسلام  ما يلي:

-  لبس الزينة (الثياب النقية) عند مناجاة الخالق في الصلاة، فقال تعالى:

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا  إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ  قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ (الأعراف: 29-30).

فالزينة والطيبات من الأكل والشرب مما أحل الله لكن بدون إسراف أو مخيلة، وسبقت الإشارة لحديث الرسول  «إن الله جميل يحب الجمال»  (مسلم) الذي ورد في معرض النهي عن التكبر والخيلاء ليعلمنا الرسول  أن تزكية النفس من شوائب سوء الخلق لا تنفك عن تنقية الجسد واللباس وطهارتهما من الأوساخ والقاذورات، فقال : «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»    (رواه مسلم وأحمد والحاكم وغيرهم ..).

- التجمل ولبس أحسن الثياب لملاقاة الناس في الجمع والأعياد:

- عن ابن سلام  أنه سمع النبي  يقول على المنبر يوم الجمعة «ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته» (رواه أبو داود وابن ماجه).

وعن سلمان الفارسي  قال رسول الله : «لاَ يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعة وَيَتَطهّرُ مَا اسْتَطاعَ منْ طُهر وَيدَّهنُ منْ دُهْنِهِ أوْ يَمسُّ مِنْ طِيب بَيْته ثُمَّ يَخْرُجُ فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنينْ ثُمَّ يُصَلّي ما كُتِبَ له  ثُمَّ يُنْصِتُ إذَا تَكَلَّمَ الإمامُ إِلاَّ غُفِرَ لهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيَن الجمُعَةِ الأُخْرَى» (رواه أحمد والبخاري).

وعند الطبراني في الأوسط والكبير بسند رجاله ثقات عن أبي هريرة  أن النبي  قال في جمعة من الجمع «يا معشر المسلمين هذا يوم جعله الله لكم عيدا فاغتسلوا وعليكم بالسواك».

بل ورد  في السيرة النبوية عن عائشة رضي الله عنها أن النبي  إذا أراد أن يستقبل الوفود تهيأ لذلك بلباس خاص (المغازي للواقدي).

- استحسان لبس الأبيض من الثياب:

وهذا ما يتميز به المسلم ويوافق شعار الإسلام (الصفاء والنقاء)، ومعلوم أن اللون الأبيض مما تتفق عليه الأذواق ويحبه كل من كان مزاجه سليم الفطرة والذوق، لذلك كان النبي  يحب الأبيض من الثياب، ويحث على لبسه؛ فعن سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «عَلَيْكُمْ بِالْبَيَاضِ مِنْ الثِّيَابِ، فَلْيَلْبَسْهَا أَحْيَاؤُكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ، فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ» (رواه النسائي، وإسناده صحيح).

- إكرام الشعر وترجيله بلا إسراف ولا مخيلة:

لحديث أبي هريرة  عند أبي داود أن النبي  قال: «مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ».

وفي الموطأ للإمام مالك أن رجلا دخل على النبي  وأصحابه، وهو ثائر الشعر فأشار إليه رسول الله أن ارجع أي ليصلح حاله ففعل ثم أتى فقال الرسول : «أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُكُمْ ثَائِرَ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ» (الموطأ كتاب الجامع باب الشعر).

غير أن المبالغة في الاعتناء بالشعر والمنظر مذمومة، لما فيها من الإسراف وتضييع الوقت فيما لا يستحقه، وقد (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ  عَنْ التَّرَجُّلِ إِلَّا غِبًّا) (صحيح س الترمذي).

وقال الشوكاني رحمه الله: “والحديث يدل على كراهة الاشتغال بالترجيل في كل يوم، لأنه نوع من الترفه. وقد ثبت من حديث فضالة بن عبيد عند أبي داود قال: “إن رسول الله  كان ينهانا عن كثير من الإرفاه” (ص س الترمذي)،   والإرفاه: (الاستكثار من الزينة وأن لا يزال يهيئ نفسه).

وذلك من شأن النساء، والرجل  جماله الحق في قوته وشجاعته وعلمه، وليس في شعره ولباسه…

 3 – الذوق السليم في حفظ  سمات النوع الإنساني (ذكر أو أنثى):

حفظ سمات الرجولة للرجل ، وسمات الأنوثة للأنثى، وعدم تشبه جنس أو نوع  بآخر،  من شريعة الإسلام القائمة على الإيمان بأن الله هو الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا خلق كلا من الذكر والأنثى وأحسن خلقتهما وصورهما كما اقتضت حكمته، وحذّر من فعل الشيطان الذي أقسم على الإنسان أن يغويه ويأمره بتغيير خلق الله … وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا  (النساء آية: 118).

لذلك لعن رسول الله  المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “لعن رسول الله  المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال…” (البخاري كتاب اللباس).

- وعنه أيضا قال: “لعن رسول الله  المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء” (صحيح س الترمذي 2236).

ومن هو المخنث لغة واصطلاحا؟:

ورد في معاجم اللغة : (خَنِثَ الرجلُ  يخنث خَنَثاً، فهو خَنِثٌ، وتَخَنَّثَ، وانْخَنَثَ: تَثَنَّى وتَكَسَّرَ، والأُنثى خَنِثَةٌ. وخَنَّثْتُ الشيءَ فتَخَنَّثَ أَي عَطَّفْتُه فتَعَطُّفَ؛ والمُخَنَّثُ من ذلك للِينهِ وتَكَسُّره، وهو الانْخِناثُ، فالخَنِث: المسترخِي المتكسِّر وامرأةٌ خُنُثٌ: مُتَثَنِّيةٌ).

وورد  في معجم لغة الفقهاء: (المخنث: بضم الميم وتشديد النون المفتوحة، الرجل المتشبه بالنساء في مشيته وكلامه وتعطفه وتلينه).

والمخنث الملعون في الحديث هو الذكر الذي اختار بإرادته التشبه بالنساء بدون ضرورة خلقية  وإنما حبا في تغيير خلق الله ونزوعا إلى الفسق والانحراف لأن معظم المخنثين دافعهم لذلك هو الشذوذ الجنسي أو النزوع للفسق مع الجنس الآخر…

أما المخنّث بالخلقة الذي يسمى (الخنثى المشكل)  لعدم وضوح علامات الذكورة أو الأنوثة عليه، فهو وإن كان في كلامه لين وفي أعضائه تكسّر -ولم يشتهر بشيء من الأفعال الرّديئة- فلا يعتبر فاسقاً ولا يشمله اللعن الوارد في الحديث، و له أحكام خاصة في الفقه الإسلامي.

وقضية التشبه بالجنس الآخر قضية كبرى في الإسلام لمفاسدها العظمى منها؛

- اتباع أوامر الشيطان في تغيير خلق الله، ومنها الانسياق مع أهواء النفوس المريضة المنحرفة، وإثمها الأكبر في أنها تنافي الإيمان بقضاء الله وقدره والرضا بالمكانة التي اختارها الله للعبد ذكرا كان أو أنثى، لذلك كان حكم الإسلام صارما في الموضوع فقد نهى الله حتى عن تمني أحد الجنسين  مكانة الآخر، فقال تعالى: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ  لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ  وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ (النساء: 32).

مع أن سبب نزول الآية -كما جاء في التفاسير- هو سؤال أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها الرسول : لماذا لا يغزو النساء ويكون لهن من الفضل ما للرجال؟ فكان جواب القرآن فاصلا في الموضوع.

ومما يؤسف له أن ظاهرة التخنث بين الشباب وتشبه البنات بالذكور باتت ظاهرة لافتة للنظر بمستويات وأشكال مختلفة يمجها الذوق السليم فبالأحرى الذوق الإسلامي، ويشهرها الفساق من غير المسلمين، و يدافع عنها المارقون من الدين تحت ذرائع الحقوق وحرية الإنسان الشخصية -الإنسان المنتسب للقردة، نعم- وليس الإنسان بني آدم الذي كرمه الله وفضله، وصدق الله العظيم إذ يقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (التين: 4 – 5).

يتبع ..

د. محمد البوزي

———————–

1 – ومعنى جميل يحب الجمال : قال المناوي: إن الله جميل أي له الجمال المطلق جمال الذات وجمال الصفات وجمال الأفعال، يحب الجمال أي التجمل منكم في الهيئة، أو في قلة إظهار الحاجة لغيره، والعفاف عن سواه. شرح حديث 1720 فيض القدير ج2  ص 283

2 – صحيح سنن أبي داود ،  قوله : “فليكرمه”: “أي فليزينه ولينظفه بالغسل والتدهين والترجيل ولا يتركه متفرقاً”.

3 – نيل الأوطار ج 1 ص 152 ط دار الفكر غير محقق.

4 – اللسان  والمعجم الوسيط بتصرف.

5 – محمد رواس قلعجي وحامد صادق قنيبي  ج1 ص 314 باب الميم.