المجتمع الإسلامي مجتمعٌ مؤمن بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِر وَالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وهذا الإيمان من الثوابت التي لا تتزعزع، رغم ما بذله أعداء الإيمان منذ القديم من أجل زعزعة هذه الأسس الإيمانية، وكلما عجزوا عن ذلك لجأوا إلى أساليب أخرى، عادة تكون أخلاقية، تحت غطاء أن مسألة الإيمان بين العبد وربه، ولا دخْل للإيمان في القضايا الأخرى، سواء أكانت أخلاقية أم اجتماعية أم اقتصادية أم سياسية.
حدَث هذا في زمن النبوة، حينما نال المنافقون من أمِّنا عائشة رضي الله عنها، فيما عُرف بحديث الإفك. وقد نزل في هذا الحدث قرآن يتلى برَّأَ أمَّنا رضي الله عنها، وحذَّر الخائضين في الموضوع بالعذاب في الدنيا والآخرة، وكان مما نزل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النور: 19).
وكما قال بعض المفسرين: “هذا إذا أحبوا إشاعتها وإذاعتها. فكيف إذا توَلَّوْا هُم إشاعتها وإذاعتها، لا نصيحةً منهم، ولكن طاعةً لإبليس ونيابة عنه.
والعِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول علماء الأصول، ومن ثَمَّ فإن الرغبةَ في إشاعة الفاحشة في المجتمع المؤمن سلوكٌ عدواني يتجدد مع كل جيل من هذا المجتمع، ولذا كانت أقوال بعض المفسرين لهذه الآية معبرة عن هذه الحالة بشكل دقيق.
جاء في “أحكام القرآن” للجصاص في تفسير الآية السابقة ما يلي:
“المَعْنَى: “إنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ” فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ الْإِرَادَةُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ أَحَبَّ لَكُمْ ثَلَاثًا وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: أَحَبَّ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَكَرِهَ لَكُمْ الْقِيلَ وَالْقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ»، فَجَعَلَ الْكَرَاهَةَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَحَبَّةِ، فَدَلَّ أَنَّ مَا أَرَادَهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ، كَمَا أَنَّ مَا كَرِهَهُ فَلَمْ يُرِدْهُ، إذْ كَانَتْ الْكَرَاهَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِرَادَةِ كَمَا هِيَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَحَبَّةِ، فَلَمَّا كَانَتْ الْكَرَاهَةُ نَقِيضًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْإِرَادَةِ، وَالْمَحَبَّةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ”.
ثم قال: “أَبَانَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وُجُوبَ حُسْنِ الِاعْتِقَادِ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ لَهُمْ فَأَخْبَرَ فِيهَا بِوَعِيدِ مَنْ أَحَبَّ إظْهَارَ الْفَاحِشَةِ وَالْقَذْفِ وَالْقَوْلِ الْقَبِيحِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْعِقَابَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ سَلَامَةِ الْقَلْبِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَوُجُوبِ كَفِّ الْجَوَارِحِ والقول عما يضر بهم
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» (رواه البخاري).
وجاء في التحرير والتنوير:
وَمَعْنَى: أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ أَنْ يَشِيعَ خَبَرُهَا، لِأَنَّ الشُّيُوعَ مِنْ صِفَاتِ الْأَخْبَارِ وَالْأَحَادِيثِ كَالْفُشُوِّ وَهُوَ: اشْتِهَارُ التَّحَدُّثِ بِهَا. فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ أَنْ يَشِيعَ خَبَرُهَا إِذِ الْفَاحِشَةُ هِيَ الْفَعْلَةُ الْبَالِغَةُ حَدًّا عَظِيمًا فِي الشَّنَاعَةِ…”
وَمِنْ أَدَبِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يُحِبَّ لِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يُحِبُّ أَنْ يَشِيعَ عَنْ نَفْسِهِ خَبَرُ سوء كَذَلِك يجب عَلَيْهِ أَنْ لَا يُحِبَّ إِشَاعَةَ السُّوءِ عَنْ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَلِشُيُوعِ أَخْبَارِ الْفَوَاحِشِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالصّدقِ أَو بِالْكَذِبِ مَفْسَدَةٌ أَخْلَاقِيَّةٌ فَإِنَّ مِمَّا يَزَعُ النَّاسَ عَنِ الْمَفَاسِدِ تَهَيُّبُهُمْ وُقُوعَهَا وَتَجَهُّمُهُمْ وَكَرَاهَتُهُمْ سُوءَ سُمْعَتِهَا وَذَلِكَ مِمَّا يَصْرِفُ تَفْكِيرَهُمْ عَنْ تَذَكُّرِهَا بَلْهَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى تُنْسَى وَتَنْمَحِيَ صُوَرُهَا مِنَ النُّفُوسِ، فَإِذَا انْتَشَرَ بَيْنَ الْأُمَّةِ الْحَدِيثُ بِوُقُوعِ شَيْءٍ مِنَ الْفَوَاحِشِ تَذَكَّرَتْهَا الْخَوَاطِرُ وَخَفَّ وَقْعُ خَبَرِهَا عَلَى الْأَسْمَاعِ فَدَبَّ بِذَلِكَ إِلَى النُّفُوسِ التَّهَاوُنُ بِوُقُوعِهَا وَخِفَّةُ وَقْعِهَا عَلَى الْأَسْمَاعِ فَلَا تَلْبَثُ النُّفُوسُ الْخَبِيثَةُ أَنْ تُقْدِمَ عَلَى اقْتِرَافِهَا وَبِمِقْدَارِ تَكَرُّرِ وُقُوعِهَا وَتَكَرُّرِ الْحَدِيثِ عَنْهَا تَصِيرُ مُتَدَاوَلَةً. هَذَا إِلَى مَا فِي إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ مِنْ لِحَاقِ الْأَذَى وَالضُّرِّ بِالنَّاسِ ضُرًّا مُتَفَاوِتَ الْمِقْدَارِ عَلَى تَفَاوُتِ الْأَخْبَارِ فِي الصِّدْقِ وَالْكذب.
وَلِهَذَا ذُيل هَذَا الْأَدَبُ الْجَلِيلُ بِقَوْلِهِ تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَيْ يَعْلَمُ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ فَيَعِظُكُمْ لِتَجْتَنِبُوا وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فَتَحْسِبُونَ التَّحَدُّثَ بِذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضُرٌّ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَتَحْسِبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ.