مأساة الشرود عن منهج “الله يرانا”


لست أدري إن كان هذا الجيل يعرف أن هذه العبارة الجامعة والهادفة هي عنوان درس من دروس مادة المحادثة في التعليم الابتدائي في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، والتي حذفت بعد ذلك من المقرر الدراسي مثلما حذفت مواد ومقررات أخرى هادفة تجمع بين تلقين المعرفة والتربية بالقدوة الحسنة، وتستهدف تحصين الناشئة وتقوية مناعتهم الفكرية والخلقية؛

لست أدري إن كان جيل الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي وجيل القرن الواحد والعشرين / الجيل الذي أغواه مارد “الشبكة العنكبوتية”، هل كان يعلم أن عبارة “الله يرانا” عنوان لقصة مؤداها أن أبا دعا ابنه ليصحبه إلى بستان ليسرق منه فاكهة، فلما وصلا البستان أمر الأب ابنه أن يراقب الفضاء، فإذا ما أحس بأحد أشعره، وما إن دخل الأب إلى البستان حتى نادى الابن أباه: أبي هناك من يرانا، فلما نظر الأب يمنة ويسرة لم ير أحدا، فقال لابنه: لم أر أحدا يا بني، فأجابه الابن الصغير: إن لم يكن أحد من الناس يرانا فالله يرانا؛

كان المدرس يسرد علينا هذه القصة، ونحن يومئذ صغار، فكنا نتأثر بهذا الحوار اللطيف بين صغير بطل يحث على الخير، في مواجهة كبير مجبول على الشر؛

ثم ما لبث المدرس القاص أن اقتبس لقطة بهية من سيرة عمر ، تبين أنها الأصل الذي استوحى منه واضع البرنامج هذه القصة، إنها قصة بائعة اللبن المشهورة زمن عمر بن الخطاب ، فقد حكى لنا أن بائعة اللبن هذه دعت ابنتها بالليل أن تمزج اللبن بالماء، وكان عمر وهو يتفقد رعيته يسمع حوارهما، فقالت لها البنت: “يا أماه أما علمت أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نهى عن ذلك، قالت الأم: يا ابنتاه قومي إلى اللبن فامزجيه بالماء فإن عمر لا يرانا. قالت الفتاة: يا أماه إن كان عمر لا يرانا، فإن رب عمر يرانا”، وفي رواية أخرى: “فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه والله ما كنت لأطيعه في الملأ واعصيه في الخلاء”؛ ثم حكى مآل هذا الحوار الذي كنا نتتبعه يومئذ بلهفة وشوق: “فدعا عمر  أولاده و قص عليهم الأمر ثم قال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة فأزوجه؟ و لو كان لأبيكم قوة إلى النساء ما سبقه منكم أحد إلى هذه الفتاة.

فقال عبد الله: لي زوجة.

و قال عبد الرحمن: لي زوجة.

و قال عاصم: يا أبي لا زوجة لي فزوجني.

فتزوجها عاصم فولدت لعاصم بنتا فكانت أما لعمر بن عبد العزيز رحمه الله أعدل بني مروان و خامس الخلفاء الراشدين”.

لم تكن لنا يومئذ القدرة على التحليل والاستنباط حتى ندرك مقاصد القصة، ونستوعب الرسائل التي تحملها؛ كل ما في الأمر أننا كنا نتقمص بحماس منقطع النظير شخصية بطل القصة، وكنا نلهج في حلنا وترحالنا مع من نصادفه من الكبار بعبارة: “الله يرانا”؛ وما كنا نعلم ما بدأنا نعلمه اليوم من أن صغارا ممن تشربوا المغزى التربوي لهذه القصة سيفلحون -وهم صغار- في تهذيب سلوك آبائهم المبتلين ببعض الرذائل كالمخدرات والتدخين وترك الصلاة وما إليها فاستقام سلوكهم على أيديهم، وما كنا ندرك أن بنات قد أفلحن في توجيه أمهاتهن فأقلعن عن التبرج السافر، وتحلين بالحجاب الباهر.

ما كنا قادرين يومئذ أن ندرك أن هذه القصة على وجازتها وبساطتها هي النواة الخلقية للمراقبة الذاتية التي ستكبر مع الطفل وتكبر معه المراقبة الذاتية، فيصير الشخصية المسؤولة الناجحة في الوظيفة التي سيتقلدها دون حاجة لمن يراقبه، مربيا أو طبيبا أو مهندسا أو حرفيا أو مديرا أو رئيسا… فلا يحتاج لمسؤول أو وزير ليراقبه، فالله يراه.

ما كنا ندرك أن هذه النواة الخلقية هي التي ستصنع في المدرس الوازع المهني فيؤدي مهمة التدريس على الوجه المطلوب، فلا يقصر أو يتهاون أو يستهتر في أداء واجبه. وها نحن ندرك اليوم أن آفة الغش التي سرت في الوسط الطلابي إن هي إلا بسبب افتقار هذا الجيل لهذا اللقاح التربوي العاصم والمحصن.

لم تكن عندنا يومئذ القدرة على التحليل حتى ندرك ما بدأنا ندركه اليوم ونحن نتأمل القصة لنستخرج منها ما يلي:

1 – عبقرية واضعي البرامج حين اختاروا الطفل الصغير بطلا للقصة: الابن البريء في مواجهة أبيه المتأهب للسرقة، والبنت البريئة في مواجهة أمها المتأهبة لبخس اللبن، وبما أن البطل الصغير في الحالتين عنصر خير فقد صار قدوة لكل متعلم صغير، والكل يريد أن يتقمص شخصية البطل الخيِّر وهو يحارب الشر لهذا الاعتبار؛

2 – أخذ القصة من الواقع ثم التأصيل لها من تراث السلف الصالح رسالة واضحة في تربية الناشئة منذ هذه السن المبكرة على التشبث بالهوية الحضارية، وربط الماضي بالحاضر، وذاك مقصد تربوي سام؛

3 – كانت القصة مغرية بنتيجتها، موجهة بمآلها، إذ كانت خيرية البنت/ البطلة سببا في زواجها من ابن أمير المؤمنين الخليفة الثاني الراشد، ثم يكون لها حفيدا الخليفة الخامس الراشد عمر بن العزيز؛ وهذا مغزى عظيم في كون الجزاء من جنس العمل، وهو حافز للصغار على الإقدام على الخير، والإدبار عن الشر.

4 -  لم تكن عندنا يومئذ القدرة على الاستنباط والمقارنة حتى نوازن بين برامجنا الدراسية أمس على هذا النحو وهي هادفة تربويا وخلقيا، وبين برامجنا اليوم وقد أزيلت أو كادت منها المواد الهادفة والمقررات الملتزمة، وجففت أو تكاد من القيم التربوية، ومالت أو كادت إلى التغريب بدل التأصيل.

واليوم وقد بلغ السيل الزبى، وأتى الوادي فطمَّ على القرِيِّ، هل كان سيحصل ما يشاهد اليوم من المآسي الاجتماعية والاقتصادية والخلقية لو أن هذا الجيل تربى منذ الصغر تحت شعار “الله يرانا” وتشرب مقاصده، هل كنا سنسمع عن الفساد المالي والإداري واقتصاد الريع ونهب المال العام لو أن من تسول له نفسه ذاك تخرج من مدرسة “الله يرانا”؟

هل كان غش الطلاب وغش المدرسين سيستشري إلى هذا الحد؟

وهل السرقات العلمية ستستفحل إلى هذا المدى؟

وهل كانت العلاقات التربوية ستهتز بما سادها اليوم من انحلال وتفسخ وقد هُجر الحياء، وما ترتب عن ذلك من تفشي ظاهرة العنف والاعتداءات المتكررة؟

هل كانت كل المآسي الخلقية ستحصل في القطاع التعليمي لو أن في البرامج التعليمية نصوصا هادفة من طينة “الله يرانا”.

ولو أن شعار “الله يرانا” صار الشعار الذي يردده الإعلام والذي توضع له اللافتات في الشوارع، ولو أن شعار “الله يرانا” كان الشعار السائد في الوسط التعليمي والاجتماعي والإعلامي ما ساد فساد ولا راج انحراف، وما سولت النفس للمفسد أن يمد يده إلى المال العام، ولا للغاش أن يفكر في الغش، ولا للسارق أن يهم بالسرقة، ولا للمسؤول والموظف والحرفي أن يتهاون أو يستهتر أو يخل بالواجب…

إنها إذن مأساة برامجنا التعليمية، مأساة الشرود عن منهج “الله يرانا”.

د. صالح أزوكاي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>