اِغتنام الأوقات من أسباب الرقي


عن معاذ بن جبل  قال: قال رسول الله : «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمُره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟» (1).

يستفاد من الحديث الشريف، أن السنة تؤكد قيمة الوقت، وتقرر مسؤولية الإنسان عنه أمام الله يوم القيامة، بحيث يسأل عن أربع خصال، عن عمره عامة، وعن شبابه خاصة، كيف وظفه؟، وفيما استثمره؟، والشباب جزء من العمر، ولكن له قيمة متميزة باعتباره سن الحيوية الدافقة، ومرحلة القوة بين ضعفين: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة، كما يسأل المرء عن جمع المال الذي اكتسبه، من أين؟ وكيف؟ وماهي منابعه؟  وكيف تصرف فيه؟ وهل أحسن استغلاله والتعامل به؟ أصرفه في الحلال أم في الحرام؟ فالمال سلاح ذو حدين له في الخير مجال طويل، وفي الشر ذيل كبير، كما يسأل عن علمه ماذا عمل به؟ هل بلغ أم كتم؟ فالعلم يحتاج إلى عمل، وقديما قيل: علم بلا عمل كشجرة بلا ثمر.

وعليه، فهذا الحديث ينبه كل عاقل بالغ إلى أن وقته ثمين، ينبغي أن يحسن استثماره واستغلاله، لأنه سيسأل عن دقائقه وساعاته وأيامه وشهوره، لأن كل ساعة مرت لا تعود إلى يوم القيامة.

وفي الحديث الشريف إشارة إلى قاعدة عند علماء البلاغة، عطف الخاص على العام، فكلمة عمره عامة، وكلمة شبابه خاصة، فمرحلة الشباب هي إحدى مراحل العمر التي يمر بها الإنسان، ولكن لخطورتها وأهميتها يسأل عنها العبد سؤالا خاصا.

وبالتأمل في القرآن والسنة، نلمس بوضوح عنايتهما بالوقت والدعوة إلى حسن استثماره واستغلاله في صور عديدة. وفي صدارة هذه العناية، قول الرحمن المنان، في معرض الامتنان، وبيان عظيم فضله على الإنسان: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ  وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا..(2) ويقول تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا(3). أي خليفة يخلف كل واحد منهما صاحبه، فالليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، فمن فاته عمل في أحدهما استدركه في الآخر.
فالليل والنهار أيضا خزائن الأعمال، ومراحل الآجال، إذا ذهب أحدهما خلفه الآخر، ابتغاء إيقاظ الهمم إلى المسارعة في فعل الخيرات، وتنشيط الجوارح على فعل الطاعات.

كل هذا فيه دعوة إلى أخذ العبرة من مرور الليالي والأيام، فالليل والنهار يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويطويان الأعمار، ويشيبان الصغار، ويفنيان الكبار.

ولبيان أهمية الوقت، أقسم الله تعالى في مطالع سور عديدة من القرآن المكي بأجزاء معينة منه، مثل الليل والنهار، والفجر، والضحى، والعصر، ومن ذلك قوله تعالى:  والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى(4)، والفجر وليال عشر(5)، والضحى والليل إذا سجى(6)، والعصر إن الإنسان لفي خسر(7)، بإجماع المفسرين، على أن الله تعالى إذا أقسم بشيء من خلقه، فلأهميته وعظمته، والتنبيه على جليل منفعته وآثاره.

للوقت خصائص ومميزات نذكر بعضها:
- الوقت هو الحياة: حياة الإنسان تتمثل في وقته الذي يقضيه من الميلاد إلى الوفاة، فعمر الإنسان قصير، مهما طالت الأعوام والسنون، حتى كأنها لحظات تمر مر السحاب، بل كالبرق الخاطف، فهذا شيخ المرسلين سيدنا ، سئل، يا أطول الأنبياء عمرا، كيف وجدت الدنيا؟ فأجاب ، كدار لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر! فإجابته  تعبر عن حقيقة مقررة، هي تضاءل الأعمار عند الموت، فعندئذ يتراءى الإنسان قصر ما فات.

لذا بعض السلف كانوا يزِنون أيام العبادات على وجه الخصوص، فيسمون الصلوات الخمس، “ميزان اليوم” حيث يفتتح المؤمن يومه بالصلاة، ويختمه بالصلاة، ويسمون يوم الجمعة “ميزان الأسبوع” ويسمون شهر رمضان، “ميزان العام” ويسمون الحج “ميزان العمر” حرصا منهم على سلامة الأيام والشهور والأعوام. ثم في النهاية سلامة العمر، وذلك مسك الختام.

- ما مضى منه لا يعوض ولا يعود:

كل لحظة تمر من العمر، لا يمكن استعادتها، وبالتالي لا يمكن تعويضها، وها هو الإمام الحسن البصري -رحمه الله- الذي كان كلامه أشبه بكلام الأنبياء، يقول: “ما من يوم ينشق فجره، إلا وينادي: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة”. وقال أيضا، “يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة، كلما ذهب يوم ذهب بعضك”. وقال بعضهم: إنا لَنفرحُ بالأيام نقطعها وكل يوم مضى جزء من العُمر
ولما كان الوقت سريع الانقضاء، وكان ما مضى منه لا يرجع، ولا يعوض بشيء، كان الوقت أنفس وأثمن ما يملك الإنسان، وترجع نفاسة الوقت إلى أنه وعاء لكل عمل وكل إنتاج، فهو في الواقع رأس المال الحقيقي للإنسان فردا أو مجتمعا(8).

لذا فعمر الإنسان هو رأس مال العبد الحقيقي الذي ينبغي أن يحرص على اغتنامه في طاعة الله  قبل فوات الأوان، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله  لرجل وهو يعظه، «اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»(9).

وقال عبد الله بن مسعود:  “ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي” فهذا الكلام ينطبق عليه المثل الشائع: “الوقت من ذهب” ولكن حقيقة الأمر الوقت أغلى من الذهب واللؤلؤ، ومن كل جوهر نفيس.

- استثمار الأوقات وحسن استغلالها من صميم الشريعة:

من الواجب على المسلم تجاه وقته المحافظة عليه كما يحافظ على ماله، بل يجب أن يستفيد من وقته فيما يعود عليه بالنفع في دينه ودنياه، وهذا كان سائدا عند أصحاب القرون الأولى، فكانوا يحرصون على الاستفادة من أوقاتهم، لأنهم أعرف الناس بقيمتها.
وهذا عمر بن عبد العزيز يقول: “إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما”.
وعن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: «بادروا بالأعمال سبعا هل تنظرون إلا إلى فقر مُنس، أو غنى مُطغ، أو مرض مفسد، أو هرم مُفند، أو موت مجهز، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر»(10).
ومن الكلام المأثور عن السلف: قولهم، “من علامة المقت إضاعة الوقت” ويقولون: “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك” فكانوا دائما يسعون إلى أن يكون يومهم أفضل من أمسهم، وغدهم أفضل من يومهم، وفي هذا يقول قائلهم: “من كان يومه كأمسه فهو مغبون، ومن كان يومه شرا من أمسه فهو ملعون”.

وفي هذا يقول الشاعر:

إذا مر بي يوم ولم أقتبس هدى

ولم أستفد علما فما ذاك من عمري

وقال أحد الحكماء: من أمضى يوما من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه، وظلم نفسه.

وهذا الإمام ابن الجوزي -رحمه الله- يحكي أنه إذا حل به ضيف يشتغل في بري الأقلام، وخياطة الكتب، وضم الأوراق، وتقطيعها… كل ذلك من أجل استثمار الوقت. بل كان السلف الصالح يكرهون من الرجل أن يكون فارغا، لا هو في أمر دينه، ولا هو في أمر دنياه، وهنا تنقلب نعمة الفراغ نقمة على صاحبها. لأن من لم يشغل نفسه بالحق، شغلته نفسه بالباطل.
ويشتد خطر الفراغ، إذا اجتمع مع الفراغ الشباب، الذي يتميز بقوة الغريزة، وفي هذا يقول الشاعر أبو العتاهية:

إن الشبـــاب والفراغ والجـــده

مفسدة للمرء أي مفسده(11)

وختاما نقول: ما أحوجنا في زماننا هذا إلى استثمار الأوقات وملئها بالطاعات، بَلْهَ إلى استغلال كل ساعة تمضي من عمرنا في العمل الصالح، وأخذ الدروس والعبر من انصرام الشهور والأعوام، فالسعيد السعيد، من حاسب نفسه، واستفاد من وقته فيما ينفعه في دينه ودنياه، فبمحاسبة النفس تستقيم الأحوال وتصلح الأعمال، ومن غفل ذلك ساءت أحواله وفسدت أعماله، فاللهم اصلح أحوالنا، وسدد أقوالنا، واهدنا سبل السلام.

 ذ. علي السباع

—————————-

1 – المعجم الكبير: أبو القاسم الطبراني، (ت 360هـ) ج 20 ص 60.

2 – سورة إبراهيم: الآيتان، 34 – 35.

3 – سورة الفرقان: الآية 61.

4 – سورة الليل: الآيتان: 1 – 2.

5 – سورة الفجر: الآيتان، 1 – 2.

6 – سورة الضحى: الآيتان، 1 – 2.

7 – سورة العصر: الآية، 1.

8 – الوقت في حياة المسلمين: للدكتور يوسف القرضاوي، الناشر: مؤسسة الرسالة  بيروت، ط 5، 1991م ص 8.

9 – المستدرك على الصحيحين: للحاكم النيسابوري، (ت 405هـ)، كتاب الرقاق، ج 4 ص 341.

10 – سنن الترمذي: باب ما جاء في المبادرة إلى العمل، ج 4 ص 128.

11 – الجدة: القدرة المالية التي تمكن الإنسان من تحصيل ما يشتهي.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>