لن نكون مبالغين البتة، إذا قلنا بأن ما تقوم عليه المنظومة التعليمية في وطن من الأوطان، من مناهج وبرامج، وما تستهدف بثه في نفوس الناشئين في مختلف الأعمار، من قيم وتصورات وأفكار، وإكسابهم إياه من مهارات وكفايات، وما تتوسل به إلى كل ذلك من علوم ومعارف، وطرائق ومنهجيات، فضلا عما يكتنف كل ذلك من فضاءات تتفاوت في عناصرها من حيث الضحالة أو الغنى، أو من حيث السلامة والاعتلال، (ألخ)، هو بمثابة الشفرة المركزية التي تختزن بين ثناياها أسرار التكوين، وجينات الاستواء أو الاختلال، أو السلامة والمرض. ولأجل ذلك يتم الرهان عند الأمم اليقظة الحية، والمتطلعة للريادة الحضارية والاستمرار الوازن في خريطة الوجود الإنساني الكبير، على تلكم الشفرة الغالية.
بتعبير آخر يكشف الغرض من هذه المقدمة: يمكن القول بأن الشخصية الإنسانية التي نتوفر عليها في مجتمع من المجتمعات، رهينة في ملامحها وخصائصها، وفي رؤيتها ومسلكها ومواقفها، بطبيعة الخبرات والتجارب والاشتراطات والإيحاءات التي تنفذ إلى عقل ووجدان تلك الشخصية، سواء بطريقة شعورية أو لا شعورية، فلا شيء يضيع أو يتلاشى في ظل قانون أو منطق التراكم، أو تفاعل الذات مع المحيط، مما يجعل الشخصية الإنسانية برغم كونها قابلة للتطور والتنامي، عبارة عن جوهر متميز الملامح والأبعاد، ينطبق هذا الوصف على الشخصية الجماعية انطباقه على الشخصية الفردية سواء بسواء.
وجدتني أنساق في تيار التفكير في هذه القضية الفكرية ذات البعد الثقافي التربوي، وأنا أستحضر بقوة هم قضية فلسطين والقدس والمسجد الأقصى، الذي يزداد توهجا واشتعالا، مع ازدياد التحديات، وتفاقم الاستفزازات التي تتوالى مع الأيام، في علاقة طردية مع ازدياد ضعف وانهيار النظام العربي الذي بات في حكم العاجز عن صد الذباب الذي اتخذ له أرائك مريحة على خريطة وجهه الذابلة المتهالكة الواهنة. فوجدتني في وضعية من يصرخ بملء فيه، باعتباري ممن حملوا هم التربية والتعليم في هذا البلد العزيز: أي موقع تشغله قضية فلسطين في “منظومتنا” التعليمية، وهل إذا نحن قمنا باستقراء وسط الأجيال التعليمية الراهنة يقيس درجة الولاء والانتماء لديهم من باب هذه القضية المقدسة، وصلنا إلى ما يثلج الصدر، ويشعر بالأمان، و يبعث على الاطمئنان على مستقبل تلك الأجيال، ومن ثم مستقبل فلسطين في ضميرهم ووجدانهم، أم أننا نواجه على العكس من ذلك بنتيجة مخيبة للآمال، مفادها خلو ذلك الضمير وذلك الوجدان من أي شيء يحيل على تلك القضية، مما يجعلنا ندق ناقوس الخطر، ونعلن الحداد على جيل هم في حكم الموتى والمعدمين، ماداموا معزولين مفصولين بشكل كلي من شجرة الوعي بأقدس قضية تحرك وجدان الأمة، وتقدح زناد التدافع لديها من أجل إثبات وجودها، وتجديد روحها، وبعث كيانها من رماد التكلس والنسيان، وانتشالها من بين أذرع أخطبوط الخيانة والغدر، ومن أروقة النخاسة والسمسرة السوداء.
مما لا شك فيه أن إثبات أحد شقي هذه الفرضية يحتاج إلى بحث علمي ميداني يتوسل إلى نتائجه وتقريراته بالطرق والتقنيات المعلومة، ويعبر عنها بلغة الأرقام، الكفيلة بالإقناع والإفحام.
إن القيام بمثل هذا البحث والتحقيق إذا حصل، يكون لبنة في الاتجاه الصحيح، وتعبيرا عن أن هناك بقية من حياة في كيان من هم مسئولون عن مصير هذه الأمة.
غير أن هناك، في غياب ذلك، من القرائن والمؤشرات، بحكم المعايشة والممارسة لمجريات الواقع التعليمي، ما يفيد بأن موقع فلسطين في منظومتنا التعليمية موقع ضعيف باهت، مما يدل دلالة قاطعة على أن هذه المنظومة توشك أن تخطئ موعدها مع التاريخ ومع الأجيال، وتخلي موقعها وثغرها، فيما يرتبط بقضية عزيزة مقدسة، هي من الأمة بمثابة القلب النابض الذي يرتهن بإبقائه حيا نجاحها في الاستجابة الموفقة للتحدي وربح الرهان الحضاري.
قد يقول قائل: إن هناك في خضم الواقع الثقافي وداخل أنشطة المجتمع المدني ما يقلل من الخسائر الحاصلة على مستوى النظام التعليمي جراء تغييبها لهذه القضية المصيرية المحركة الرائدة، ونقول جوابا على ذلك: إن القضية من الجسامة والمصيرية بحيث تحتاج إلى تأصيل وتقعيد وتعميق، لن تحسنه وتنهض بمهامه العظمى إلا منظومة واعية كفيلة برفع لبناته وأسسه في وعي المتعلمين، من خلال رؤية شاملة، تستحضر تلك القضية في أبعادها: العقدية والإنسانية والحضارية. فهل تعود منظومتنا الشاردة للمرابطة مع المرابطين على ثغر فلسطين ببيت مقدسها ومسجدها الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين؟ وهل تنصت بإمعان وخشوع إلى البلاغ القرآني الصادع المهيب: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الإسراء: 1).
د. عبد المجيد بنمسعود