الوعظ هو النصح والترغيب في الخير بما يرقق القلب ويذكر بالعواقب، وقد عرفها ابن القيم في التفسير القيم بانها: “الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب”، كما عرفها الجرجاني في تعريفاته بأنها: “التي تلين القلوب القاسية، وتدمع العيون الجامدة، وتصلح الأعمال الفاسدة” ، وقد حث الله تعالى النبي أن يكون موعظته حسنة قال البغوي في تفسيره “والموعظة الحسنة، يعني مواعظ القرآن. وقيل: الموعظة الحسنة هي الدعاء إلى الله بالترغيب والترهيب. وقيل: هو القول اللين الرقيق من غير غلظة ولا تعنيف”.
قال ابن عاشور: “وقُيدت الموعظة بالحسنة ولم تقيد الحكمة بمثل ذلك لأن الموعظة لما كان المقصود منها غالباً ردع نفس الموعوظ عن أعماله السيئة أو عن توقّع ذلك منه، كانت مظّنة لصدور غلظة من الواعظ ولحصول انكسار في نفس الموعوظ، أرشد الله رسوله أن يتوخّى في الموعظة أن تكون حسنة”.
وتدور المواعظ غالبا في دائرة الترغيب والترهيب، بتذكير الناس بالفرائض وحثهم على النوافل بجمل رقيقة وعبارات دقيقة فيها ذكر الثواب والجنة والنار، كما تشتمل تلك المواعظ على قصص ومواقف وحكايات الأسلاف. وهذا كله مطلوب وجميل، لكن: هل يكفي الوعظ في بناء أمة؟
هل يكفي الوعظ في بناء أمة؟
سؤال مطلوب ومهم وهو محل كلامنا في هذا المقال، والحقيقة أننا ننشد بناء أمة تمتاز بالوعي، والوعي كما في المعاجم العربية كلمة تدل على عدة معاني تتكامل وتتعاضد لتخلق في الجماهير حالة من الفهم والإدراك الحقيقي للنفس والأشياء، تقوم على اليقظة والانتباه وحسن تقدير الأمور، وبها يدرك المرء الأشياء من حوله، ويفهم ماله وما عليه.
إن الوعي بهذا التوصيف لا يمكن أن يقوم على عنصر واحد من عناصر الخطاب الإسلامي المنشود أيا كان هذا العنصر وبخاصة عنصر الوعظ، فكثيرا ما رأينا جماهير تنفعل مع القصص وتحب الرقائق وتدمن الأذكار والأوراد، لكنها تنقاد لجلاديها بأريحية، وتقبل إهدار حقوقها بيسر، وتهلل للمستبد الظالم دون خجل، وتقبل بهامش حرية لا يمنحها معنى الإنسانية، وبفتات من العيش لا ترقى به إلى درجة الآدمية.
بئس الخطاب خطاب لبس ثوب الدين وهو ينيم الناس، ويخدر الجماهير، ويدعو إلى الإذعان، ويغشي القلوب بمفاهيم الزهد والانسحاب من الدنيا ليفسح المجال أمام الطغاة والمستبدين، ويحرك العواطف ويلهيها بما تنسى به حقوقها ولا تلتفت به إلا إلى أداء ما عليها من حقوق لهؤلاء الظلمة والطغاة وكأنها خلقت هي بلا حقوق.
خطر الخطاب الوعظي:
لابد من الوعظ كعنصر في خطابنا الدعوي الإسلامي، لكننا نرفض أن يكون هو كل شيء، فإذا غلب وكان الوعظ هو كل المضمون الدعوي فلذلك مخاطر جمة يجب التحذير منها ولفت الأنظار إليها منها:
علمنة الخطاب الإسلامي بل والحياة الإسلامية: وذلك أننا بتغليب خطاب الوعظ نفصل الجماهير عن الحياة، ونفسح المجال لغيرنا يمتلكها ويسخرها لخدمة فكره وتوجهاته، فكم من المسلمين نتيجة غلبة هذا الخطاب يظن تلقائيا أن لا علاقة للإسلام بالسياسة أو الاقتصاد أو الحرب أو التربية أو غير ذلك، ويتعجب كثيرا بل ربما يستنكر أي حديث عن غير المألوف لديه من هذه القضايا، مع أنها من صلب الإسلام، وقد حدثنا العلامة القرضاوي يوما كما كتب في أحد كتبه موقفا معبرا عن ذلك فقد دعي يوما لإلقاء محاضرة في مسجد كبير في خمسينات القرن الماضي وتحدث عن الجهاد من خلال سورة الأنفال وكان ذلك بمناسبة غزوة بدر في السابع عشر من رمضان، وبعد أن انتهى فوجيء بإمام المسجد يقول له: كلامك كان جميلا لكنني كنت أود أن تحدثنا في الدين، قال فتعجبت وسألته: ماذا يقصد بالدين؟ قال تحدثنا عن الطهارة من الاستنجاء والوضوء والغسل من الجنابة وغير ذلك، قال: فقلت له إن الوضوء والغسل ورد في القرآن في آيتين فقط في كتاب الله، بينما سور كاملة جاءت تتحدث عن الجهاد أو سميت باسمه. أقول تلك كانت نظرة إمام وخطيب مسجد كبير للإسلام فكيف بمن دونه من العوام. إن العلمانية التي تريد سلخ الحياة عن الدين تحت مبررات يجهر بها دعاتها، سيساعد الدعاة في ترسيخها متى غلَّبوا خطاب الوعظ على سائر جوانب الخطاب الإسلامي الشامل ولكن تحت ستار الدعوة إلى الله.
تأخر الأمة في خدمة دينها ورسالتها: لأن بتغليب خطاب الوعظ ينحصر الناس في المواعظ والقصص والرقائق، ومن ثم ينشغلون بالنوافل والقُرب الفرعية ويتجاهلون الفرائض الكبرى وبخاصة فرائض الكفايات التي رجحها الجويني وأبوه وابن السبكي والسجزي وغيرهما على فروض الأعيان، ومعلوم أن فروض الكفايات التي بها قوام الحياة لا تقوم بجماعة من “الدراويش” أو الرهبان المنسحبين من غمار الحياة، وإنما تقوم على من يمتلكون ناصية العلوم، ليقيموا حياة متكاملة قوية يخدمون من خلالها رسالتهم في العالمين، بدلا من الجهالة والبطالة والكسل الذي يحيط بالأمة من كل أفق، حتى غدت تستورد سلاحها ودواءها وغذاءها، وتستجدي الحياة من عدوها.
وهناك آثار سوء ينتجها الخطاب الوعظي المجرد، لا داعي للاسترسال في تعدادها.
وخلاصة القول: أن القرآن الذي بلغ 6236 آية، والأحاديث الذي يعتمد فيها على 100 ألف حديث صحيح بتقريب البعض، لا يتصور أن تكون كل هذه الأرقام الهائلة من الآيات والأحاديث كلها آيات وأحاديث وعظ، وإنما هي منهاج حياة كامل للفرد والأمة، للدنيا والآخرة، للحياة بسياستها واقتصادها وحربها وسلمها، واجتماعها وصحتها وتعليمها، توجيهات في الحقوق والواجبات مصداقا لقوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ (النحل: 89)، ولقوله سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (المائدة: 4).
والاقتصار في تعريف الناس الإسلام، وعرضه عليهم على جانب واحد على حساب هذا الشمول والتكامل خيانة عظمى وإن لبس فاعلوها ثوب الدعاة.
د. أحمد زايد
كلام جميل وموضوع مهم في بابه ولمزيد من الفائدة أرجو من الاخوة قراءة كتاب دين الحياء من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني للدكتور طه عبد الرحمن فقد فصل جزاه الله خيرا في هذا الموضوع