إلى أن نلتقي – القدس الشريف كما وصفه الرحالة المغربي ابن بطوطة 1


أبو عبد الله محمد ابن بطوطة، (703 – 779هـ) رحالة ومؤرخ وقاض وفقيه مغربي أمازيغي، لُقّب بـأمير الرحالين المسلمين. وتعد رحلته المسماة:”تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، رحلة فريدة، أو تكاد، لما فيها من الغرائب والعجائب.

خرج من مسقط رأسه –كما قال-: “في يوم الخميس الثاني من شهر الله رجب الفرد عام خمسة وعشرين وسبعمائة معتمدا حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام”، وسِنُّه يومئذ اثنتان وعشرون سنة.
وكان من بين الأماكن التي زارها بيت المقدس الشريف، حيث قال واصفا زيارته له:
“ثم وصلنا إلى بيت المقدس شرفه الله، ثالث المسجدين الشريفين في رتبة الفضل، ومصعد رسول الله تسليما ومعرجه إلى السماء. والبلدة كبيرة منيفة بالصّخر المنحوت. وكان الملك الصالح الفاضل صلاح الدين بن أيوب، جزاه الله عن الإسلام خيرا، لما فتح هذه المدينة هدم بعض سورها، ثم استنقض الملك الظاهر هدمه خوفا أن يقصدها الروم فيمتنعون بها. ولم يكن بهذه المدينة نهر فيما تقدم، وجلب لها الماء في هذا العهد، الأمير سيف الدين تنكيز أمير دمشق.
وهو من المساجد العجيبة الرائقة الفائقة الحسن، يقال إنه ليس على وجه الأرض مسجد أكبر منه، وأن طوله من شرق إلى غرب سبعمائة واثنتان وخمسون ذراعا بالذراع المالكية، وعرضه من القبلة إلى الجوف أربعمائة ذراع وخمس وثلاثون ذراعا، وله أبواب كثيرة في جهاته الثلاث، وأما الجهة القبلية منه فلا أعلم بها إلا بابا واحدا، وهو الذي يدخل منه الإمام، والمسجد كله فضاء غير مسقف إلا المسجد الأقصى فهو مسقف، في النهاية من إحكام العمل وإتقان الصنعة، مموّه بالذهب والأصبغة الرائقة، وفي المسجد مواضع سواه مسقفة.
ذكر قبة الصخرة:
وهي من أعجب المباني وأتقنها وأغربها شكلا، قد توفر حظها من المحاسن، وأخذت من كل بديعة بطرف، وهي قائمة على نشز في وسط المسجد يصعد إليها في درج رخام، ولها أربعة أبواب، والدائر بها مفروش بالرخام أيضا محكم الصنعة، وكذلك داخلها وفي ظاهرها وباطنها من أنواع الزواقة، ورايق الصنعة، ما يعجز الواصف، وأكثر ذلك مغشى بالذهب فهي تتلألأ نورا وتلمع لمعان البرق، يحار بصر متأملها في محاسنها ويقصر لسان رائيها عن تمثيلها.
وفي وسطِ القبّةِ الصخرةُ الكريمة التي جاء ذكرها في الآثار، فإن النبي عرج منها إلى السماء، وهي صخرة صماء ارتفاعها نحو قامة، وتحتها مغارة في مقدار بيت صغير ارتفاعها نحو قامة أيضا، ينزل إليها على درج، وهنالك شكل محراب، وعلى الصخرة شباكان اثنان محكما العمل يغلقان عليها: أحدهما وهو الذي يلي الصخرة من حديد بديع الصنعة، والثاني من خشب، وفي القبة درقة كبيرة من حديد معلقة هنالك، والناس يزعمون انها درقة حمزة بن عبد المطلب .
ذكر بعض المشاهد المباركة بالقدس الشريف:
فمنها بعدوة الوادي المعروف بوادي جهنم، في شرقي البلد على تلّ مرتفع هنالك بنية يقال إنها مصعد عيسى إلى السماء، ومنها أيضا قبر رابعة البدوية (منسوب إلى البادية وهي خلاف رابعة العدوية الشهيرة)، وفي بطن الوادي المذكور كنيسة يعظمها النصارى ويقولون: إن قبر مريم عليها السلام بها، وهنالك أيضا كنيسة أخرى معظمة يحجها النصارى… وهنالك موضع مهد عيسى يتبرك به.
ذكر بعض فضلاء القدس:
فمنهم قاضيه العالم شمس الدين محمد بن سالم الغزّي بفتح الغين وهو من أهل غزة وكبرائها، ومنهم خطيبه الصالح الفاضل عماد الدين النابلسي، ومنهم المحدّث المفتي شهاب الدين الطبري، ومنهم مدرس المالكية وشيخ الخانقات الكريمة أبو عبد الله محمد بنمثبت الغرناطي نزيل القدس…
ثم سافرت عن القدس، ورافقني الواعظ المحدث شرف الدين سليمان الملياني. وشيخ المغاربة بالقدس، الصوفي الفاضل طلحة العبد الوادي فوصلنا إلى مدينة الخليل ، وزرناه ومن معه من الأنبياء عليهم السلام.
وأبرز ما يمكن ملاحظته على هذا الوصف ما يلي:
أن ابن بطوطة زار بيت المقدس بعد ما يقرب من قرنين من تحرير صلاح الدين له، وقد أشار إليه وأثنى عليه، وصلاح الدين من أصل كردي كما هو معروف، مما يعني أن رابطة الإسلام كانت أقوى من أي رابطة.
أن الآثار المسيحية بقيت كما هي، مع محافظة المسلمين عليها، والسماح للنصارى بزيارتها والحج إليها، على عكس ما فعله الصليبيون حينما احتلوا تلك المنطقة؛ مما يدل على سماحة الإسلام والمسلمين.
أن المغاربة كانوا يشكلون في ذلك الوقت جالية مهمة في القدس الشريف، إذ كان لهم شيخ. ولئن كانت الأندلس امتدادا طبيعيا للمغرب، فإن مدرسَ المالكية في القدس وشيخ الخانقات (رباطات الصوفية) بها كان غرناطيا أندلسيا.

أ.د. عبد الرحيم الرحموني


اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “إلى أن نلتقي – القدس الشريف كما وصفه الرحالة المغربي ابن بطوطة