أولا: طبيعة ألفاظ القرآن الكريم:
مفردات القرآن لها طبيعة خاصة متفردة؛ لأنها كلمات الواحد الأحد الذي يعلم السر في السموات والأرض، جعلها الله آيات للهداية، وأنزلها بعلمه ذلك أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما، وأحاط بالكلام كله علما، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره، والبشر معهم الجهل، والنسيان، والذهول، ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن قط محيطا”(1). فكانت كلمات الله هي الأصل في الاستعمال لـ:
- لأنها من الله الذي خلق فسوى وقدر فهدى.
- لأنها صادقة يتطابق لفظها مع معناها.
- لأن بها تحصل الرؤية الصادقة للكون بوحي الله.
- لأن أصل التلقي من الوحي لا من تفاعل الإنسان مع الأرض.
- لأنها كافية لصناعة عبد الله كما يريد الله.
ثانيا: خصائص تصريف ألفاظ القرآن الكريم:
وخصائصها التصريفية في القرآن عجب تميزت في صورتها العامة بما يلي:
مواقعُها كمواقع النجوم مفروشة في سماء القرآن زينة للناظرين وحصانة لفهم الدارسين المتلقين.
وتصريفها بناء متكامل من أدنى حركة في الحدث إلى أعلى حركة فيه، فكل صيغة تعطيك معنى يكون لبنة ضرورية في تحصيل العلم بالقرآن.
- وعلاقتها ببعضها رحم موصولة متآخية متصلة تماما لاتصال عطف أو تقابلا ائتلافا واختلافا.
ولما كان لألفاظ القرآن هذه الخصائص المتفردة كان لابد من الوقوف على أصول معاني هذه الألفاظ تحقيقا للمعنى الأصلي للفظ –كما يسميها بن فارس في معجمه: “مقاييس اللغة” أو جرثومة المعنى كما عند عبد الحميد الفراهي (ت 1349هـ) ،أو المعنى المحوري كما عند الدكتور محمد حسن جبل- وهي أول خطوة في دراسة اللفظ القرآني؛ إذ به تضبط التصرفات الاشتقاقية الكثيرة، ويسترجع به شعاع المعنى إلى أصل واحد، فهو بمنزلة المادة الأصلية التي تصاغ منها عدة هيئات تقتضيها الحاجة للتعبير عن الشيء المراد بيانه، وبمعرفة الأصل يمكن رصد التطور الذي حصل على مستوى دلالة الكلمة، والاستعمال القرآني للكلمة العربية قد يبقيها على الأصل وقد يعطيها معنى جديدا، وتبقى معرفة الأصل الاشتقاقي معينة على تبين المعاني المذكورة في اللفظ المذكور.
ثالثا: ألفاظ من القرآن تعبر عن مقاصدها:
اخترت ثلاثة ألفاظ تجلى فيها المقصد واضحا من خلال إدراك أصول معانيها، لكن مع مرور الزمن وخضوع هذه الألفاظ للتقريب اللغوي، أصبحت هذه الألفاظ لا يستحضر فيها ذلك المعنى الأصلي عند التواصل بها وهي على الترتيب: الصلاة -الزكاة- الإثم.
أ- الصلاة:
الصلاة من الألفاظ المركزية التي يكثر التخاطب بها، فالوقوف على أصل معناها في اللسان العربي ضروري لتحصيل مقاصدها، والاصطباغ بأثرها. والملاحظ في لفظ الصلاة في الاستعمال أنه اقتصر في تعريفها اللغوي على معنى الدعاء فقط، وفي التعريف الاصطلاحي على الهيئة المخصوصة، وغاب أصل معناها الذي يعبر عن ثمرتها.
وتقريبها لغة بـ”الدعاء” أمر لا يسلم؛ إذ اللفظان مركزيان وكلاهما له خصوصية في الاستعمال، وبينهما فروق جوهرية أبرزها أن (صلّى) في جميع تعلقاتها لا تستعمل إلا في الخير، يقال: صليت له وصليت عليه، أما (دعا) إذا اقترنت باللام أفادت الدعاء بالخير يقال: (دعا له بالخير) واذا اقترنت بعلى أفادت الدعاء بالشر يقال (دعا عليه بالهلاك).
وعند الرجوع إلى المعاجم الاشتقاقية وما إليها ندرك أصل معناها، فأصلها كما حقق السهيلي رحمه الله “إنما معناها كلها الحنو والعطف من قولك: (صليت) أي: حنيت صلاك وعطفته وهي مشتقة من (الصلّوين) وهما عرقان في كفل الإنسان ينحنيان عند انحنائه، فقيل: (أصليت) أي: انحنيت راكعا أو ساجداً” (نتائج الفكر ص:45).
فالصلاة على هذا اسم لمقصد عظيم من مقاصد بناء عبد الله، وهو الخضوع والتذلل لله سبحانه وتعالى؛ إذ الصلاة كلها بأفعالها وأقوالها تعلن عن هذا المقصد، بدءا من القيام الذي يجسد حالة الاستسلام لله سبحانه وتعالى، ثم يتدرج العبد في الخضوع ركوعا، ثم ينتهي سجودا في تحقق كامل للخضوع لله تعالى؛ تقاصرا في القامة، وقصرا للجوارح كلها استسلاما لربها، مع إعلان باللسان تسبيحا، ثم يجلس بعد جلسة كجلسة العبد بين يدي سيده مستهديا مستغفرا مستعفيا.
فالصلاة اسم يتضمن مقصود الصلاة من تحقيق عبد الله الذي لا يخضع إلا لربه، ولا يأتمر إلا بأمره.
ب – الزكاة:
انطبع في الأذهان أن الزكاة اسم للمال الذي يخرجه الإنسان أداء لما فرض الله عليه، لكن عند تتبع استعمال هذا اللفظ في القرآن نجده في آيات يعبر عن مقصد إخراج المال، وليس اسما المال فمثلا قوله تعالى في سورة الليل: وَسَيُجَنَّبُهَا الاَتْقَى الَّذِي يُوتِي مَالَه يَتَزَكَّى(الليل:17-18). فجعل التزكية غاية لإيتاء المال، وليست اسما للمال، ومثله قوله تعالى: خُذ مِن أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا(التوبة: 104).
وإذا رجعنا إلى معناها المحوري في اللغة نجده يتلخص في: “زيادة الشيء في ذاته مع جودة نوعه” المعجم الاشتقاقي لجبل (زكو).
فالزكاة على ما سبق: اسم لما يتحصل في النفس من بركة ونمو في الخيرات، مع تخل عن كل ما يكدرها ويُدَسيها، يدرك بها صاحبها الفلاح في الدنيا والآخرة، وقد صرح بهذه الغاية في قوله تعالى: قَدَ افْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (الأعلى: 14/15).
فمفهوم الزكاة على هذا اسم يعبر عن مقصده، بل تفعل له الأفعال لتحصيله. وهو ما يعبر عنه قوله تعالى: والذين هم للزكاة فاعلون (المؤمنون: 4) ،”أي: يفعلون ما يفعلون من العبادة ليزكيهم الله، أو ليزكوا أنفسهم، والمعنيان واحد. وليس قوله: «للزكاة» مفعولا لقوله: «فاعلون»، بل ا للام فيه للعلة والقصد” من: مفردات الراغب(زكو).
ج – الإثم:
قد قرب لفظ الإثم كثيرا للأفهام في كتب اللغة والتفسير بنحو: الخطيئة، والذنب، والمعصية، والسيئة وغيرها. لكن يبقى السؤال قائما، ما خصوصية هذا اللفظ من حيث سماته الدلالية؛ ليتحقق فيه مفهوم النظم في سياقاته التي تميزه عن الألفاظ الأخرى المفسرة (بكسر السين) له وهي مستعملة في القرآن أيضا، والقاعدة: أن كل كلمة في القرآن تقصد قصدا محكما إلى إبراز قضية ما، فإذا أدمجنا معناها بلفظ آخر، فكأننا طمرنا معناها فيه، وبالتبع يذهب مقصدها البياني الذي أراده الله بها.
وعند تحقيق مفهوم الإثم في أصله اللغوي نجد أنه متفرد في قيوده الدلالية المكونة له، وهي التي عبر عنها الراغب في المفردات(أثم) بقوله: “الإثم والآثام: اسم للأفعال المبطئة عن الثواب”.
وعند قيام هذا المعنى في النفس ستحقق مقاصد الآيات التي كان هذا اللفظ مركزيا فيها، فمثلا في قوله تعالى: يَسْأَلُونَك عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا (البقرة: 217) أي: فيتناولهما إبطاء عن فعل الخيرات وحرمان لثوابها.
وفي هذا المعنى بيان أن الخمر والميسر وصفا بهذا الوصف ولما يحرما بعد كما بين في السنة، وإطلاق الوصف عليهما تنبيه على بيان ما يحصل إثر تناولهما من ثقل في النفس يقعد عن المسارعة إلى الخيرات، وخسران للثواب، ويؤيد هذا المعنى النهي بعد نزول الآية عن قرب الصلاة في حالة السكر، والصلاة رأس الخيرات قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ(النساء: 43).
ويتبين لنا من خلال هذا المفهوم أن الإنسان بين أمرين فيما يستقبل من آثار وتبعات لفعله: فإذا كان فعله سيئا آخذا بالذنب راكبا خيل الخطايا متلبسا بلباس المعاصي كانت مجازاته ثقل في نفسه وبطء في حركته نحو فعل الخير، فيفوته المقصد الذي من أجله أخرج لهذه الحياة وهو المسارعة إلى المغفرة، والاستباق نحو الخيرات، وإذا كان فعله حسنا وكان عند باب طاعة ربه، كان ثوابه الخفة نحو الخير والبر والتقوى، وفي هذا إكرام وأي إكرام؛ إذ العبرة بالجزاء في الدار الآخرة وليس في الدنيا، فكلما كان التوفيق إلى فعل الخيرات أكثر كان ادخار الجزاء أعظم.
وخلاصة القول: إن الكشف عن أصول معاني ألفاظ القرآن الكريم باب قوي لإدراك مقاصد القرآن الكريم، بل هو الباب الأول يسبق أي تحليل أو استنباط، والخطأ فيها تغيير للنظام المحكم المفصل، وأي تجاوز لهذا الأصل هو حيدة عن المنهج الصحيح لبيان المقاصد، وبزحزحة لمفهوم قرآني عن موقعه “أنشأ مذهباً باطلاً، وأضلَّ به قوماً عظيماً، وجعل المِلّةَ الواحدةَ بَدَداً” كما يقول الإمام الفراهي رحمه الله.
د. مصطفى الزكاف
—————————
1 – المحرر الوجيز لابن عطية 1/52.