المطالع والمقاطع وأثرها في الكشف عن مقاصد السور 2


إن معرفة مقاصد القرآن الكريم تعد من جملة “الأولويات”  التي ينبغي أن تحظى من الدارسين والباحثين بل وعامة التالين لكتاب الله المبين بكثير من العناية والاهتمام، لأن إدراك هذه المقاصد  من شأنه أن يحدد طرق التعامل مع القرآن الكريم على مختلف المستويات، وفي مقدمتها التعامل معه من جهة  إبراز معانيه، وإظهار أسراره التي تنطوي تحت المفردات، وتراكيب وترتيب الآيات، ولقد نص عدد من الباحثين على جملة من المسالك والطرق التي تهدي إلى إدراك هاتيك المقاصد، بيد أني أقصد الحديث في هذه المقالة على سبيل واحد منها، وهو ما يصطلح عليه في الدراسات القرآنية: “بمطالع السور ومقاطعها”.

1 – دلالة المفاهيم:

أ – مطالع السور:  يراد بهذا العنوان، بداية السور وفواتحها، وليس بالضرورة الكلمة الأولى في السورة أو الآية، وإنما المراد جملة المعاني المحورية المترابطة الدالة على موضوع أو قضية ما، ولاغرو أن “الألفاظ” الحاملة لهذه المعاني داخلة في مسمى الفواتح والمطالع، وتركيزنا على “المعنى” مقصود لذاته، إذ الغرض هو بيان أثر تلك المعاني المصدرة في الكشف عن مقصود السورة الأكبر.

ب – مقاطع السور:  ويراد بالمقاطع “خواتيم السور” أي الآيات أو الكلمات أو الجمل التي تختم بها سور القرآن الكريم، وليس بالضرورة آخر آية في السورة أو كلمة منها، بل المراد الآيات المشكلة لوحدة من وحدات السورة، ذات ترابط معنوي خاص، ومن ثم فقد تكون آية واحدة، أو آيات.

2 – دلالة الفواتح على المقاصد:

من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم افتتاح سوره بآيات دالة على مقصود السورة ومحورها وموضوعها، وقد وسم البلاغيون هذا النوع من الترابط “ببراعة الاستهلال”، وهو أمر مشهور ومعلوم في الشعر العربي، وبخاصة ما صدر منه في العصر الجاهلي، بيد أن القرآن الكريم قد بلغ في هذا الضرب من البلاغة حد الإعجاز، نظرا للترابط الدقيق، والإحكام العجيب الذي يجمع بين الوحدات والآيات المكونة لمجموع السورة، يقول الحافظ جلال الدين السيوطي: “ومن الابتداء الحسن نوع أخص منه يسمى براعة الاستهلال، وهو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه، ويشير إلى ما سيق الكلام لأجله، والعلم الأسنى في ذلك سورة الفاتحة التي هي مطلع القرآن، فإنها مشتملة على جميع مقاصده”(1).

فكل افتتاح في أي سورة من سور القرآن دال على مقصودها، ومحورها، سواء افتتحت بالتسبيح، أو التحميد، أو أي نوع من أنواع الثناء على المولى ، ويدخل في  ذلك حتى السور المفتتحة بما يسمى: “الحروف المقطعة”، وقد انتبه إلى هذه الخصيصة من أوائل المفسرين الإمام أبو جعفر ابن جرير الطبري رحمه الله حيث يقول في صدر البقرة: “فكان معنى الكلام -في تأويل قائل القول الأول- أن الله جل ثناؤه افتتح كلامه بوَصْف نفسه بأنه العالِمُ الذي لا يخفى عليه شيء، وَجعل ذلك لعباده منهجا يسلكونه في مُفتتح خطبهم، ورسائلهم، ومهمِّ أمورهم، وابتلاء منه لهم، ليستوجبوا به عظيمَ الثواب في دار الجزاء، كما افتتح ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ (الأنعام: 1) وما أشبه ذلك من السُّور التي جعل مَفاتحها الحمد لنفسه، وكما جعل مفاتحَ بَعضها تعظيم نَفسه وإجلالها بالتسبيح، كما قال جل ثناؤه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا (الإسراء: 1)، وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن، التي جعل مفاتحَ بعضها تحميدَ نفسه، ومفاتحَ بعضها تمجيدَها، ومفاتح بعضها تعظيمَها وتنزيها، فكذلك جَعل مفاتحَ السور الأخَر التي أوائلها بعضُ حروف المعجم، مدائحَ نفسه، أحيانًا بالعلم، وأحيانًا بالعدل والإنصاف، وأحيانًا بالإفضال والإحسان، بإيجاز واختصار، ثم اقتصاصَ الأمور بعدَ ذلك”(2).

وإذا كان الطبري قد لاحظ هذه الدلالة في مطالع السور المفتتحة بالثناء على الله أو تنزيهه عما لا يليق به مثل السور المفتتحة “بالمسبحات” فكذا يقال الأمر في سائر السور، المفتتحة ببقية أنواع التصدير العشرة، والتي هي:الثناء، وحروف التهجي، والنداء، والجمل الخبرية، والقسم، والشرط، والأمر، والاستفهام، والدعاء، والتعليل، فتتبع جميع السور المفتتحة بهذه الأنواع تلحظ دلالتها على مقصود السورة واضحا أحيانا، وأحيانا أخرى يحتاج إلى نوع من التدبر والتأمل، والتفكر في استخراج تلك الدلالة.

3 – دلالة الخواتم على المقاصد:  

وإذا كانت “فواتح السور” تشير إلى مقصودها لتهيئ النفوس والقلوب لاستقبال تلك المقاصد وتمثلها، فإن “خواتيم السور” هي الأخرى، قد جاءت على نحو بديع وعجيب، حيث اشتملت من خلال آياتها، وتراكيبها، بل وحتى “إيقاعها الصوتي” على ما يذكر ويلخص المقاصد الهامة في السورة، وإذا كان بعض البلاغيين قد ركزوا الكلام على خاتمة الكلام بشكل عام، فإنا نرمي هاهنا إلى دور “خواتم السور” في الكشف عن مقاصدها، إعمالا لمبدأ “الترابط الوثيق” بين أجزاء السور،  وفي الاستقراء التام لختام السور نرى بوضوح كيف صيغت على نحو يشير بشكل واضح إلى تلك الأغراض، ولا بأس أن ننقل هاهنا كلاما لأحد البلاغيين وهو “ابن أبي الأصبع” من خلال كتابه: “بديع القرآن” وهو يستعرض لنا هذه الخواتيم مبينا لنا دورها وأثرها في الكشف عما نحن بصدده، يقول رحمه الله: “وجميع خواتم السور الفرقانية في غاية الحسن ونهاية الكمال، لأنها بين أدعية، ووصايا، وفرائض، وتحميد، وتهليل، ومواعظ، ومواعد، إلى غير ذلك من الخواتيم التي لا يبقى للنفوس بعدها تشوف إلى ما يقال”(3) ثم استرسل في ذكر خواتيم السور وجمعها لخلاصة المقاصد فيها، كالدعاء الذي ختمت به البقرة، والوصايا في خاتمة آل عمران، والفرائض في خاتمة النساء، والتبجيل والتعظيم في خاتمة المائدة، والوعد والوعيد في خاتمة الأنعام …الخ.

إننا إذا وقفنا مع هذه الخواتيم بشيء من التدبر والفكر سنجد أنها تشير بشكل واضح لا لبس فيه إلى المقصود الأعظم في السورة، فالدعاء في خاتمة البقرة بما يحمل من معاني جمة، ومركزة، كلها طلب للإعانة والقدرة على امتثال التكاليف العقدية والشرعية والأخلاقية الواردة في ثنايا السورة، ومهما اجتهد المسلم في محاولة للاستجابة لتلك التكاليف يبقى التقصير سمة من أبرز سماته، ومن أجل ذلك جاء الدعاء في خاتمة السورة بطلب عدم المؤاخذة على النسيان والخطأ، وطلب عدم تحمل ما لا نطيق، والعفو والمغفرة والرحمة، فمن خلال هذه المعاني نفهم قيمة “التكاليف الربانية”، والامتحان الإلهي، والذي تمثله أوضح تمثيل” قصة البقرة” بما ترمز إليه من واقع الاستجابة للتكاليف الربانية، وهكذا فقل في نهاية آل عمران، التي جاءت في صورة وصايا آمرة بالصبر والمصابرة، والمرابطة، وتقوى الله تعالى،  وكذا ختام النساء بذكر الفرائض التي ما كانت سورة النساء في مقصودها إلا إعرابا عن واقع التشريع تجاه قضية من أهم القضايا التي كانت تعاني منها “المرأة” في الجاهلية، حيث كانت تحرم من ميراثها، ومن حقها في مالها، بل تجعل هي نفسها من الميراث، فتحبس في البيت انتظارا منها لما يقرر في أمرها، بالزواج، أو الرق والعبودية، أو غير ذلك من صور الاستعباد والاسترقاق الإنساني، فجاء ختام السورة مذكرا وملخصا لمقصود السورة الأعظم، المتعلق “بحقوق المرأة” بمختلف أحوالها، في حقوق التركة المالية، وهكذا كلما أجلت النظر في سائر خواتيم سور القرآن الكريم ألفيتها تجري على هذا المنوال، ولا تخرج عن هذا الضرب، وإنما الأمر يحتاج إلى تدقيق النظر، والتأمل والتدبر في معاني الكتاب، واعتباره وحدة متكاملة متناسقة، مترابطة في أجزائها، ومحكمة في نسجها، وما من سبيل لفهم القرآن وإدراك مقاصده إلا من خلال الدخول من هذه الأبواب المفتاحية التي تعد فيها المطالع والمقاطع من أبرز المداخل الدالة على إدراك مقاصده، ومعرفة أسراره وأغراضه.

د. سعيد بوعصاب

جامعة ابن زهر

كلية العلوم الشرعية – السمارة

———————-

1 – الاتقان 2/284.

2 – جامع البيان لابن جرير الطبري 1/215.

3 – بديع القرآن لابن أبي الأصبع،2 / 347.


اترك رداً على هاجر إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

2 thoughts on “المطالع والمقاطع وأثرها في الكشف عن مقاصد السور