أبو معين الدين ناصر خسرو المروزي رحالة فارسي: 394 – 480هـ. عرف برحلته التي دونها في كتابه “سفرنامه” الذي ترجمه إلى العربية يحيى الخشاب.
ورغم ما قيل عن معتقد ناصر ومذهبه، فإن رحلته تعد وثيقة تاريخية مهمة عن الأماكن التي زارها وخاصة أرض الرباط؛ أرض فلسطين، من وصفه لها ولمدينة القدس خاصة بمسجديها الشهيرين: قبة الصخرة والمسجد الأقصى شرفهما الله تعالى.
ويدل وصفه للمدينة وللمسجدين على حضارة كبيرة كانت قائمة، وخاصة ما يتعلق بالعمران، كما يتضمن هذا الوصف إشارات إلى الحضور المغربي هناك منذ ذك الزمن.
ومما جاء في رحلته في وصف مدينة القدس ما يلي:
هي مدينة مشيّدة على قمة الجبل، ليس بها ماء غير الأمطار، ورساتيقها ذات عيون، وأما المدينة فليس بها عين، وهي على رأس صخري، وهي مدينة كبيرة كان بها عشرون ألف رجل، وبها أسواق جميلة وأبنية عالية، وكل أرضها مبلّطة بالحجارة، وقد سووا الجهات الجبلية والمرتفعات وجعلوها مسطّحة بحيث تغسل الأرض كلها وتنظّف حين تنزل الأمطار.
وفي المدينة صنّاع كثيرون، لكل جماعة منهم سوق خاصة، والجامع شرقي المدينة وسوره هو سورها الشرقي، وبعد الجامع سهل مستو ي سمى “الساهرة”…
ورأيت قبّة من الحجر المنحوت مقامة على بيت لم أر أعجب منه، حتى إن الناظر إليها ليسأل نفسه كيف رفعت في مكانها؟ وقد أقيمت عندها عمارات كثيرة، ويمر ماء هذه العين بقرية شيّدوا فيها عمارات كثيرة وغرسوا بها البساتين…، وقد وقفوا عليها مالا كثيراً. وفي بيت المقدس مستشفى عظيم عليه أوقاف طائلة، ويصرف لمرضاه العديدين العلاج والدواء، وبه أطباء يأخذون مرتباتهم من الوقف.
وقد بُني المسجد [أي مسجد قبة الصخرة] في هذا المكان لوجود الصخرة به، وهي الصخرة التي أمر الله موسى أن يتخذها قبلة… وظلت الصخرة قبلة حتى عهد نبينا المصطفى ، فكان المصلون يولون وجوههم شطرها إلى أن أمرهم الله تعالى أن يولوا وجوههم شطر الكعبة…
وأرض المسجد مغطاة بحجارة موثوقة إلى بعضها بالرصاص…
حين يخرج السائر من هذا المسجد، متبعا الحائط الشرقي، يجد عندما يبلغ زاوية المسجد الكبير مسجداً آخر عظيماً جداً… يسمى “المسجد الأقصى” وهو الذي أسرى الله عز وجل بالمصطفى من مكة إليه، ومنه عرج به إلى السماء…
وقد بنوا به أبنية غاية في الزخرف، وفُرش بالسجاد الفاخر، ويقوم عليه خدم مخصوصون يعملون به دوماً.
وقد نقشت تيجان الأعمدة وهياكلها وثبتت الوصلات فيها بالرصاص في منتهى الإحكام، وبين كل عمودين ست أذرع مغطاة بالرخام الملون الملبس بشقاق الرصاص.
والمقصورة في وسط الحائط الجنوبي وهي كبيرة جدا تتسع لستة عشر عموداً…وهي مفروشة بالحصير المغربي، وبها قناديل ومسارج معلقة بالسلاسل، ومتباعدة بعضها عن بعض…
وقد زين باب منها غاية الزينة، وهو من الحسن بحيث تظن أنه من ذهب… وحين تفتح الأبواب كلها ينير المسجد حتى لتظن أنه ساحة مكشوفة، أما حين تعصف الريح وتمطر السماء وتغلق الأبواب فإن النور ينبعث للمسجد من الكوات…
وخارج هذا الحرم، عند الحائط الكبير الذي مرّ ذكره، رواق به اثنان وأربعون طاقا، وكل أعمدته من الرخام الملون، وهذا الرواق متصل بالرواق المغربي…
وقد حفرت في أرض المسجد أحواض وصهاريج كثيرة، لإن المسجد مشيد كله على صخرة يتجمع فيها ماء المطر فلا تضيع منه قطرة وينتفع به الناس.
وهناك ميازيب من الرصاص ينزل منها الماء إلى أحواض حجرية تحتها، وقد ثقبت هذه الأحواض ليخرج منها الماء ويصب في الصهاريج بواسطة قنوات بينها، غير ملوث أو عفن، وقد رأيت على بعد ثلاثة فراسخ من المدينة صهريجاً كبيراً تنحدر إليه المياه من الجبل وتتجمع فيه، وقد أوصلوه بقناة إلى المسجد حيث يوجد أكبر مقدار من مياه المدينة.
وفي المنازل كلها أحواض لجمع ماء المطر، إذ لا يوجد غيره هناك، ويجمع كل إنسان ما على سطح بيته من مياه، فإن ماء المطر هو الذي يستعمل في الحمامات وغيرها.
والأحواض التي بالمسجد لا تحتاج إلى عمارة أبداً لأنها من الحجر الصلب، فإذا حدث فيها شق أو ثقب أحكم إصلاحه حتى لا تتخرب… وقد جعل القسم الأعلى منها على هيئة التنور، وعلى رأس كل حوض غطاء من حجر حتى لا يسقط فيه شيء، وماء هذه المدينة أعذب وأنقى من أي مكان آخر، والميازيب تستمر في قطر المياه يومين أو ثلاثة ولو كان المطر قليلاً إلى أن يصفو الجو وتزول آثاره السيئة، وحينئذ يبدأ المطر.
أ.د. عبد الرحيم الرحموني
بقدر ماتشكله أرض الاسراء والمعراج من جمال عمراني أخاذ ، وأصالة تاريخية فريدة من نوعها ، تشهد على عمقها الحضاري و الاستراتيجي ، فإنها في الوقت نفسه تشكل خزانا للبطولات عبر تاريخها الطويل ؛ حقا هي أرض التراث و المآثر ، كما هي أرض الإنجازات التاريخية العظمى: التي تكررت وتجددت بعد هنات وسقطات ، …. و لكن التاريخ لا يتوقف …!!!