مسافات – جيل المفتاح…


البحر يلفظ الأجساد التي ترتمي في حضنه هربا من واقع مزرٍ، يتحرك بتجاعيد الأفكار التي لا ترى في الوطن فضاء يصنع المستقبل.

والأرض العربية تشكو قسوة الإنسان ورفضه الحنوّ عليها، ومدّها بماء الحياة التي يتنفس فيها الزرع، ويغيّر وجهها إلى ما هو أجمل من كلّ ذاك الشحوب الذي يغطي أديمها .

والإنسان المستضعف بين مدّ البحر والبرّ، يخنقه ضيق الأفق، ففلسفة الجدار والعقبات هي الصورة الغالبة على كل ما يقفز للذهن من تصورات، تحبط إحساسه بالحياة وبما ينعشها ويجعلها قابلة في مخيلته  للهضم.

لعلّ القارئ يسأل ما دخل الجدران هنا في حكايتنا عن الإنسان الجديد أو قل الجيل الجديد الذي علّمه برْم المفتاح الاتكاء على الجدار البارد المتعطش للدفء ، وهو يفتح باب بيته الخاوي إلاّ من صدى ما تبقّى من أحاديث المساءات التي تجمع الأسرة بعد غياب الجميع، ليرتبط بجواب مفتوح على أن ّجل العائلات اليوم بتداعيات تغيّر أوضاع وظروف الحياة، وانفتاح المرأة على عالم الشغل وغيابها عن بيتها لساعات طويلة تشغل في بعض الأحيان اليوم كلّه، وانحسار الأسرة في الأسرة النووية، بعد أن ضاق مفهوم العائلة وحيز في دائرة الأب والأم والأبناء، غيّب دور الأم عموما في الالتفاف حول أبنائها، ومدّهم بالمعنى الروحي والقيمي والأخلاقي الذي ينعش حياتهم بتلك الطاقة التي ترفض الانهزام والانكسار أمام ما يعترض الإنسان من مصاعب، أنتج جيلا تمكّن منه الفراغ، وخلخل بنيته الأخلاقية   والروحية والإنسانية وشوّه نظرته  للجمال وأمدّه بوهم العيش في العالم الافتراضي الذي يؤسس للفردانية والأنانية والذي أثقلت كاهلنا به التيكنولوجيا أمام استغراق أبنائنا الزغب على قول الفرزدق فيه بطريقة مرضية ورضوخهم لهبل جديد اسمه ” الهاتف النقال” والذي أسهم ويسهم في تسهيل كثير من أمور الحياة ولكن سوء استعماله والافراط في استعماله أيضا  عقّد مكنوناتنا الداخلية بما يحمله من أفكار وطروحات أسهمت شبكات التواصل الاجتماعي بمجموعاتها المختلفة في جعله رهين الجديد الذي يؤسس للفراغ

عبارة جيل المفتاح ، عبارة دقيقة جدا لماذا ؟

لأنّها تأخذني إلى تلك الشريحة الواسعة من الأطفال أو المراهقين خاصة والذين يراودون المفتاح غلقا وفتحا، ليدخلوا بيوت فارغة من الدفء العائلي فينتشلهم الضياع ويبدأون رحلة العذاب مع الوحدة فيكبرون وقد أمدّهم الشارع بكل ما لا يليق: أصدقاء السوء، أفعال السوء، قول السوء ونهايات السوء، أمام انشغال جلّ الآباء والأمهات بتوفير ضروريات الحياة المادية، والتي فتحت الباب واسعا أمام اتكال أكثرهم على الآباء في تحقيق حلم امتلاك ما يطمحون لتحقيقه في حياتهم، حتى إذا كبروا  صدمهم الواقع وفاتهم معه استدراك ما فات

إن ّهذا الحكم ليس عاما، ولكنّه السائد في غالب الأحيان وما”الحرّاقة ” أو “الحرقة”إلا واحدة من الصور التي نلمح عبرها، ضياع الأبناء في براثين الماء الآسن الذي يلفظهم جثثا هامدة، تطفوا على السطح، لتصوّر لنا ما فعل الجهل  بأبنائنا، حين تركناهم رهائن هذه العوالم  التي تبيع الوهم والموت، دون توجيه أو رعاية أو مراقبة أو تصحيح،  والتي  كان الأولى بنا كآباء ، أن ندخلها معهم برفق يفهمون معه، معنى أن يعيشوا الحياة ويفهموا قيمتها، معنى أن يتعلموا ويستثمروا في العلم، معنى أن يعملوا ويستثمروا في العمل دون أن يستعجلوا الثمرة، معنى أن يفهموا لماذا هم مزروعون هنا على وجه البسيطة ؟ هل هم أجساد عابرة أم هم أرواح عميقة، مليئة بالنور تحتاج فقط ، لمن يمسح عنها غبار الوهم الذي صنعته الصورة الإشهارية والإعلام الناعم الذي يبث السمّ في الدسم والذي جنى في اعتقادي على الكثير من أحلام أبنائنا وهو يصوّر عوالم وأوطان الآخر على أنّها خير من عوالمنا و أوطاننا ،وأفكار ورؤى الآخر خير من أفكارنا ورؤانا رغم أنّ طبيعة المجتمعات أو الحضارات التّمايز

فما أجمل أن نسمو بالروح، بعد أن صارت حصون أبنائنا مهدّدة من داخلها فمنها وبها أمل العودة إلى الأوطان والأديان والإنسان في حبّه الكبير للحياة.

دة. ليلى لعوير

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>