تُعنى هذه الزاوية بجمع ما تناثر من نصوص الإعجاز القرآني في غير مصادره المتخصصة، وما تناثر في هذه المصادر لكن لغير مؤلفيها، كما تُعنى بتصنيفها حسب تاريخ وفاة أصحابها، وذلك خدمة لمكتبة هذا العلم، وفتحا لآفاق جديدة للبحث فيه، ومحاولة لإقامة
(الموسوعة التاريخية لنصوص الإعجاز القرآني في التراث العربي).
(نصوص أبي حاتم أحمد بن حمدان الرازي (ت322هـ))
(1)
«…ولكنا نحتج عليهم بما هو قائم في العالم من معجزة محمد ، مشهور واضح، وبرهانه معه، يشهد أنّه ليس من فِعل السحرة، وأنّه ليس في وُسع المخلوقين أن يأتوا بمثله، ولا يقدر على دفعه إلا معاند؛ لأنّ فِعل السّحرة يبطل ولا يثبت في العالم، ومعجز محمّد ، الذي هو القرآن، قد خلد على الدّهر، ويزداد قوّة على مرور الأيام.
وسوف نكشف عن البرهان فيه؛ ليعلم الملحدون أنّ الأمر كما دعا إليه العرب حين قالوا: لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا(الأنفال: 31)، فقال اللّه ّ ردّا عليهم: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(هود: 13) ثم خفف المطالبة فقال: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(البقرة: 22)، ثم عرّفهم عجزهم، فقال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(البقرة: 23)، فقوله فان لم تفعلوا، يعني أنّهم لم يفعلوا ما ادّعوا أن يأتوا بمثله، وقوله ولن تفعلوا أي لا تفعلون فيما بعد أبدا. ثم عرّفهم أن ذلك ليس في وسع الخلائق، فقال: قل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(الإسراء: 88).
وقد قدّمنا القول: إن الملحد لم يخطئ سنّة من تقدّمه حين زعم أنّه يأتي بألْف مثله، فانّه لم يحصل من هذه الدّعوى على أكثر من أنصار في جملة من ذكره اللّه حيث يقول: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ(الأنعام: 94).
على أنّا نقول في جوابه حين زعم أنّ الشّعر والخطب والسّجع وغير ذلك هو مثل القرآن، أنّه قد أحال في هذه الدّعوى؛ لأنّ الذي يجمعه القرآن لا يجمعه شيء مما ذكره في ظاهر اللّفظ دون القوة العظيمة التي هي فيه… والقرآن يجمع هذه المعاني كلّها التي هي في الشعر والخطب البليغة والسجع في ظاهر الأمر، دون سائر الأسباب التي يجمعها. ونحن نذكرها ونشرح الحال بها إن شاء اللّه، فنقول: إنّ العرب اشتبه عليهم الأمر فيه؛لأنّه جمع هذه المعاني كلّها…فهكذا مرّة شبّهوه بالشعر، ومرّة شبّهوه بالخطب البليغة؛ لما فيه من إيجاز القول وسهولة الألفاظ وإحكام المعاني، ومرّة شبهوه بسجع الكهّان؛لما فيه من مشاكلة للسّجع، ولأنّ الذي كان يخبر به محمّد صلى الله عليه وسلم من الأمور الغائبة كان يصّح…فمن أجل ذلك شبهّوا القرآن بسجع الكهّان، وقالوا لرسول اللّه :هو كاهن.
كما ذكرنا أنّه كان يخبر بأمور غائبة ثم تصّح، فاشتبه على العرب أمر القرآن: فمرّة قالوا هو شعر، ومرّة قالوا: هو سجع الكهّان، ومرّة قالوا: هو بلاغة وفصاحة، ولو شئنا لقلنا مثل هذا.
ولما أعيتهم الحيل ولم يدروا من أيّ صنف هو، اجتمعوا وتشاوروا في ذلك وتدبّروا فيه؛ فانتدب الوليد بن مغيرة المخزومي وكان مبجلا فيهم، فقال: قد تدبّرت كلام محمد وما هو إلا سحر يؤثر، ألا ترونه كيف يأخذ بقلوب الناس؟! فقالت قريش: صدقت والقول ما قلت؛ واتّفقوا بعد ذلك على أنّه سحر.
وكان هذا التّشبيه عندهم أوكد وأبلغ من سائر ما قالوا فيه: إنّه شعر وخطب وسجع…. فالقرآن فيه هذه المعاني التي ذكرناها ويجمعها. وسائر كلام العرب كلّ نوع هو في فن واحد.
ثم في القرآن من الأمور الجليلة التي لا يقوم الدّين والدّنيا وسياسة العالم إلا بها: مثل الدّعاء إلى توحيد اللّه ، والحثّ على عبادته وتحميده وتسبيحه وتهليله وتمجيده والثّناء عليه بما هو أهله… والأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر، والتّرغيب في الجنّة والتّرهيب من النّار… والأمر بمكارم الأخلاق ومعاليها… والنّهي عن الفحشاء والمنكر والبغي… وإقامة الحدود… وفيه أخبار القرون الخالية وأنباء القرون الآتية وضرب الأمثال. فجمع النبي في هذا الكتاب من هذه الشرائع والآداب التي قد ذكرناها إلى غير ذلك ممّا يطول به الشّرح، بتأييد من اللّه ووحي منه إليه؛ وهو أمّيّ ،كان لا يقرأ كتابا قبل ذلك ولا يكتبه، ولم يكن يخالط الملوك والرّؤساء، ولا كان يختلف إلى العلماء والأدباء كما وصفه اللّه فقال: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ(العنكبوت: 48).
وهذا من معجزاته أن يأتي بمثل هذه الأسباب الجليلة الخطيرة، ويجمعها في كتابه، وهو أمّيّ لم يقرأ ولم يكتب قبل أن أوحي إليه، فجرى على تلك السّنّة، ولو أراد أن يكتب لفعل؛ فإنّ الذي أورده في كتابه من ذكر حروف المعجم التي لا يعرفها الأميّون يدل على ذلك.
فأين الملحد المعتوه حين زعم أنّه ليس في القرآن فائدة ولا نفع ولا ضر؟ ثم قرنه بالمجسطي وكتب الهندسة والطبّ والمنطق وغير ذلك وجعل هذه الكتب نظائر للقرآن؛ بل فضّلها عليه، وأبطل فضائل القرآن.
فمن لم يؤمن بشرائعه وبما في إقامتها من النّفع الذي وعد اللّه القائم ينبها من الثّواب العظيم، والضّرّ الذي أوعد التّاركين لها من العذاب الأليم، كيف عمي عن الذي فيه من مكارم الأخلاق والأمور الجليلة التي ساس بها الأنام؟!
وكيف لم يتدبّر أمر الكتب التي ذكرها، التي ليس فيها من التّدبير ما يسوس به الإنسان أمر بيت هو أهله وولده، كما قد قامت سياسة العالم بأحكام القرآن وحدوده؟! فإنه ليس في هذه الكتب إلا آداب إن تعلّمها الإنسان سمّي تأدّبا بنوع من الأدب، وإن لم يتعلّمها لم يضرّه ذلك شيئا.
ولو أنّ إنسانا عاش ألف سنة لا يعرف المجسطي وإقليدس وكتب الهندسة والطبّ والمنطق، ولم يكن منجّما ولا مهندسا ولا طبيبا، لكان مثاله مثال من لا يكون بنّاء ولا خيّاطا ولا حائكا ولا صائغا، ولكان يكفي ذلك ولا يضرّه تركت علّمه ذلك والنّظر فيه في دينه ولا مروءته.
وجميع النّاس لا يستغنون عن أحكام القرآن والشّرائع، ولا بدّ لكلّ واحد أن ينظر في شيء منها مقدار ما يكون داخلا في جملتها، كما أنّ كلّ مسلم لا بدّ له أن يحفظ سورتين من القرآن، وكذلك كلّ ملحد متستّر بالإسلام،لا بدّ له من ذلك، وإن ترك ذلك طرفة عينه لك في أولاه وأخراه».
[أعلام النبوة: أبو حاتم الرازي، ص:234-240]
د. الحسين زروق