علل الخطاب الإسلامي المعاصر وآفاق علاجها (2\10): التأخر في السبق إلى العقول 


بعد المقدمات التي قدمنا بها لهذه المجموعة من المقالات، نتناول في مقالنا هذا أولى العلل التي أصابت خطابنا الإسلامي المعاصر وهي علة: (تأخر السبق إلى العقول).

وأحب أن أمهد لبيان حقيقة هذه العلة بكلمات هي: أن هناك احتلالا فكريا للعقول يشبه بالضبط احتلال دولة ما بجيشها وقتها أرضا ما والاستيلاء عليها، هذا الاحتلال الفكري والمعلوماتي للعقول تقوم به قوى ومؤسسات عالمية ومحلية، للسطو على فكر أمة والسيطرة على عقول أبنائها،وأي أمة سبقت فقامت بهذا الاحتلال تحكمت فيمن احتلتهم وسيطرت عليهم توجيها وتأثيرا، وقد درسنا ودرَّسنا مقررا دراسيا جامعيا بعنوان ” الغزو الفكري” وصنفت في بيانه المصنفات المعاصرة، وقد غلب على هذه الدراسات الجانب الوصفي، على حساب  جوانب العلاج وسبل المواجهة، والعقل الإسلامي تحتله -يقينا- في كثير من جوانبه وقضايا منصات غير إسلامية، أوصلت إليه منتجها الفكري، وأقنعته بمضامين مشروعاتها وسبقت الدعاة والإسلاميين في هذا الشأن، حتى غدا صنيع الإسلاميين ليس إلا رد فعل، ومحاولات الدفاع، ومحاولة علاج ما سبق وترسخ في العقول الأمة من فعل الغزو والاحتلال الفكري.

خطورة السبق إلى العقول:

إن السابق سابق كما يقولون، لأنه يستولي ويثبِّتُ وجوده، ويتحكَّم، ثم يقرر ويوجه، ثم يقود وينطلق، ويقاوم كل من يحاول الوصول إلى المساحات التي احتلها وتمكن منها،وقد قال الشاعر يزيد بن الطثرية:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى

فصادف قلبا خاليا فتمكّنا.

ولو قدر للسابق وأن جاء بعده أحد يريد أخذ موقعه فلابد له من خمس خطوات تمثل نوعا من العمليات الشاقة:

طرد المحتل.

تطهير الأرض بعد إخراج المحتل منها، ومحو آثاره الخبيثة.

ثم تهيئة الأرض للبناء الجديد.

ثم البناء على تلك الأرض.

ثم بذل الجهد في حراسة ما بٌني.

ولو سبق الدعاة إلى العقول واحتلوها قبل غيرهم لكُفُوا الخطوات الشاقة وهي جهد طرد المحتل، وجهد تطهير العقول بعد إخراج المحتل منها، وكُفُوا جهود محو آثاره الخبيثة.

وأخطر ما في هذه القضية أن الدعاة والمصلحين لو نجحوا في الخطوات الخمسة المذكورة، فلا يأمنون أن يغرف هؤلاء الذي انتشلهم الدعاة من معينهم القديم الملوث.

السبق إلى العقول ضرورة شرعية وواقعية:

يقول الله تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (البقرة: 249).

وهذا الصراع والتدافع يسبق فيه الطرف المتيقظ ويُدفع الغافل غير اليقظان، فتحتل أرضه وعقله واقتصاده وسائر أحواله، وتلك سنة الله الجارية في خلقه التي لا تتوقف ولو حاول أحد الفرار والهرب منها فستلحقه وتصيبه بسهامها وقد قال ابن الوردي:

ليس يخلو المرء من ضدٍّ

ولو حاول العزلة في رأس الجبل

فطالما وجد حق وباطل وخير وشر، فلا بد من التدافع.

إذا اتضح ما سبق فلابد من يقظة الدعاة لمقتضى هذه السنة الصارمة في الخلق، ليقوموا بدفع أهل الباطل بقوة قبل أن يدفعوهم، وبناء على ذلك لابد من دراسة “خطة عمل” جادة في إطار السباق إلى العقول، يستشرف فيها الدعاة آفاق المستقبل لتحقيق أمرين مهمين:

أولهما: السبق الكبير والكلي لعقول الأجيال الصغيرة والشابة التي لم يتمكن الخصوم بعد من احتلالها والسبق إليها – مع حرصهم على ذلك – هذا السبق يقتضي ضرورة استيعابهم في الخطاب الدعوي، ووصول الدعاة إلى هذه الأجيال الصغيرة والشابة بكل وسيلة شرعية ممكنة، وهذا يقتضي تطوير الوسائل والنزول إلى محاضنهم ومنتدياتهم، ومعرفة اهتماماتهم وفتح الأبواب لهم والتواصل معهم ومنحهم المساحة الأكبر من العناية قبل الكبار الذي احتلتهم منصات كثيرة، ولعل هذا يفسر لنا سر عناية الرسول  بالشباب حتى كان أكثر الأوائل من أصحابه الشباب، فما قامت دعوة ولا صلح مجتمع ولا انتصرت أمة إلا بصلاح شبابها. ولا زلنا نحن الدعاة غير قادرين على السبق إلى عقول هذه الشريحة، مما يحتم عقد ورش وندوات ومؤتمرات ونقاشات وإجراء بحوث لصياغة طريقة عمل يصل الدعاة من خلالها إلى صناعة خطابنا الإسلامي بصورة تجعلنا سابقين إلى هؤلاء قبل غيرنا، وهذا يحتم الخروج من الأنماط التقليدية في الخطاب الإسلامي التي هي في الحقيقة منفصلة إلى حد كبير عن الواقع ومشكلاته وقضاياه.

ثانيهما: بذل الجهد الدعوي في إيقاف النزيف الحاصل للعقل المسلم بحيث نوقف احتلال العدو لما تبقى من مساحات العقول المسلمة، ونحدد المعاني التي ينبغي أن نؤسسها ونرسخها في عقول الكبار مستقبلا قبل أن يهجم العدو ويحتل ما تبقى من عقولهم، مع خطة موازية لإزالة آثار الاحتلال السابق لعقولهم بمحو الأغاليط والأكاذيب والأباطيل التي علقت مع طول الزمن وإهمال الدعاة.

وهنا لابد من الإشارة إلى ضرورة ألا ينفصل العلماء والدعاة والمصلحون عن مسارين مهمين:

الأول: مسار الإعلام الذي ما زالت تسيطر عليه حفنة ممن يدعون بالمثقفين الذي هم غالبا أبواق المستشرقين وخصوم الإسلام، وأصبحوا من خلال هذه الوسائل نجوما تشرئب إليهم أعناق الأجيال.

وهنا لابد من أن يستخدم الدعاة الوسائل التقنية الحديثة التي يرتادها الجميع الآن وهي (وسائل التواصل الاجتماعي بكافة ألوانها وصورها”، وعدم الاكتفاء بالوسائل التقليدية من الخطب والدروس والمواعظ والكتب.

الثاني: مناهج التعليم فلا يصح أن يكون الدعاة بمعزل عن تلك المناهج، وضعا وتأسيسياً وإشرافا، ولا يقتصر ذلك على كتب ومناهج التربية الإسلامية، بل لابد من مراجعة القيم الكامنة في كل مقرر ودراسة مدى موافقته أو مخالفته للإسلام، ومعلوم أن عدونا من خلال أذنابه وأبواقه وعملائه لا يزال يعبث ويغير مناهج التعلم في بلادنا، بعد أن سبق واحتل هذه المناطق الخطيرة.

د. أحمد زايد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>