أرسل أبو جعفر المنصور، ذات يوم، إلى مالك بن أنس وابن طاوس رضي الله عنهما، فأتياه فدخلا عليه، فإذا به جالس على فرش قد نضَّدت، وبين يديه جلاوزة (جمع جلواز وهو الشرطي) بأيديهم السيوف يضربون الأعناق.
فأومأ إليهما أن اجلسا، فجلسا، ثم التفت إلى ابن طاوس فقال له : حدثني عن أبيك (وأبوه هو طاوس، وهو ذكوان بن كيسان اليماني أبو عبد الله أحد ثقات التابعين وأعيانهم، ت : 106هـ)، قال : نعم، سمعت أبي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه، فأدخل عليه الجور في عدله)) فأمسك ساعة؛ قال مالك : فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه.
ثم التفت إليه -أي إلى ابن طاوس- أبو جعفر فقال : عِظني، قال : نعم، إن الله تعالى يقول : ((ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد))(الفجر : 14-6). قال مالك : فضممت ثيابي مخافة أن يملأها من دمه، فأمسك ساعة حتى اسودّ ما بيننا وبينه.
ثم قال : يا ابن طاوس ناولني هذه الدواة، فأمسك -ابن طاوس- عنه ثم قال : ناولني هذه الدواة، فأمسك عنه.
فقال : ما يمنعك أن تناولنيها؟
قال : أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكك فيها.
فلما سمع ذلك قال : ذلك ما كنا نَبْغِ.
قال مالك : فما زلت أعرف لإبن طاوس فضله.
فرحم الله علماءنا الأجلاء الذين كانوا يبلغون كلمة الحق دون ارتياب، ويخشون مشاركة الحكام والسلاطين في معصية الله.
إعداد : عمر داود