لآلئ وأصداف – الدنيوية(1)


كثيرا ما تكون ترجمة المصطلحات سببا في خصومات فكرية واجتماعية، وذلك بسب خطأ في الترجمة، أو في فهم دلالة الكلمة المترجمة. وتدور في مجتمعنا منذ عقود معركة بين بعض من يصنفون أنفسهم بأنهم “علمانيون”، وبعض من يصنف نفسه خصما لدودا “للعلمانية”، باعتبارها “كفرا”، أو “مناهضَة للدين”، وقد أدى ذلك إلى شرخ مجتمعي، ولاسيما داخل ما يسمى” النخبة” بالمجتمعات الإسلامية، مما أعطى بعض الغلاة ــ من الطرفين ــ  مسوغا لردود أفعال متسمة بالعنف الفكري، والمادي أحيانا. وقد شهدنا في مرحلة خلت تمجيدا لكل مظاهر العنف، تحت شعار: “العنف الثوري”.

ونحن اليوم في مرحلة حساسة جدا، تحتاج فيها الأمة إلى التئام جروحها، وجمع كلمتها، وتوحيد طاقة كل المخلصين من أبنائها. إن ما شهده الغرب في قرون مضت من صراع بين الكنيسة والمجتمع، أو بين السلطتين الزمنية والروحية، نتج عنه مجموعة من المفاهيم المتعلق أكثرها بالحرية الشخصية، ومن ذلك حرية المعتقد. ونتجت مع المفاهيم، بالضرورة، مصطلحات جديدة، ومن هذه المصطلحات، في اللغة الإنجليزية مصطلح: Secularism و Secularization. وهو المصطلح الذي ترجم إلى العربية باسم: “العالَمانية”، نسبة إلى العالَم مرة، و”العَلْمانية”، نسبة إلى “العَلم”، بفتح العين، مرة أخرى، وهو نفسه العالم، كما ترجم إلى “الدنيوية” مرة ثالثة. وفي كل الأحوال فلا علاقة “للعَلمانية” بالعِلْم، بكسر العين إطلاقا. ولكن بعض الذين روجوا لهذا المصطلح في العالم العربي خاصة أوهموا الناس أن “العلمانية” إنما هي نسبة إلى العلم، وأن الذين يرفض العلمانية يرفض العلم ذاته. وذلك نوع من التدليس المقصود، وإنما المراد منها كل ما يتعلق بهذا العالم الدنيوي، وبهذه الأرض الدنيوية، وبهذه الحياة الدنيا. ولو أن مصطلح “الدنيوية” هو الذي شاع لرفع الوهم وزال الالتباس، لأن جوهر “العلمانية” هو عدم العناية بالآخرة، لأنها أمر شخصي متصل بمعتقدات الأفراد، ولا يجوز لا للدولة ولا لغيرها فرض المعتقدات الشخصية على الناس، وهذا ما صرح به المؤسسون الأُوَل في الغرب، وما نصت عليه بعض الدساتير التي اتخذت العلمانية نهجا ودستورا، في الشرق وفي الغرب. ومن المفيد الإشارة إلى أنه ليس هناك علمانية واحدة، بل هناك علمانيات متعددة، لأنها اجتهاد بشري، ولكل اجتهاده. وهي ليست شيئا جامدا، بل هي قابلة لتغير والتكيف، بحسب الأزمان والأحوال. وقد كان من معانيها “فصل الدين عن الدولة”، ولم يكن هذا يعني شيئا غير حياد الدولة في الأمور الدينية والاعتقادية، ولم يكن يعني أبدا عداء الدولة للدين، كما آل إليه الأمر بعد ذلك عند بعض الناس.

إن الكاتب البريطاني الذي كان من أوائل من نحت مصطلح “العلمانية” عام 1851، لم يجعل العلمانية مضادة للمسيحية، فلقد صرح بأنه لا يمكن أن تفهم العلمانية بأنها نقيض للمسيحية، إنها فقط منفصلة عنها. وقد عبرت عن هذا المفهوم بوضوح دائرة المعارف البريطانية، إذ تعرف العلمانية بأنها” حركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشؤون الدنيوية بدلا من الاهتمام بالشؤون الأخروية”. ولذلك رأى محمد عابد الجابري أن مصطلح “العلمانية” لا يناسب المجتمعات العربية الإسلامية، لأن الإيمان باليوم الآخر من مقومات شخصيتها، وأنه حسبها مصطلح “الديموقراطية”، فذلك هو ما تحتاج تلك المجتمعات.

وقد جسد بعض رؤساء هذا المفهوم المتقدم للعلمانية في ممارساتهم، ومن بين هؤلاء الرئيس الأمريكي الثالث توماس جيفرسون الذي صرح قائلا، عام 1786:”إن الإكراه في مسائل الدين أو السلوك الاجتماعي هو خطيئة واستبداد، وإن الحقيقة تسود إذا ما سمح للناس بالاحتفاظ بآرائهم وحرية تصرفاتهم”. أليس هذا ما نطقت به الآية الكريمة: “لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ”. (البقرة: 255)

وللحديث صلة إن شاء الله.

يلتقطها أ.د. الحسن الأمراني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>