مما لا شك فيه أن للوقف في الحضارة الإسلامية علاقةً وثيقةً بالثقافة والعلم وبتمويل مراكزهما ومؤسساتهما وإيجاد آليات تفعيل سيرها، سواء أكانت هذه المراكز مدارس أو جامعات. إن أهم شيء يميز الأمة الإسلامية أنها أمة العلم، لأن دينها الحنيف حث على طلب العلم، وكانت أول المؤسسات الوقفية التي أدت رسالة ريادية في إشاعة العلم والثقافة هي مؤسسة المساجد التي جمعت بين وظيفة العبادة لله تعالى وبين وظيفة خدمة المجتمع علميا وثقافيا حيث ظلت مراكز للعلم يدرس فيها القرآن والسنة والعلوم الشرعية واللغوية والعلوم العقلية والتجريبية من رياضيات ومنطق وفلسفة وطب وكيمياء. وبذلك كان المسجد أول مدرسة وجامعة ومؤسسة علمية تربوية في تاريخ الحضارة الإسلامية، ومن هنا كان إقبال المسلمين على وقف مداخيل ممتلكاتهم لبناء المساجد والإنفاق على صيانتها وعلى شيوخ العلم والطلبة(1).
واللافت في تاريخ الأمة أن المساجد والجوامع عُدت المواقع الإسلامية الأصلية في التعليم والتثقيف ارتبطت منذ العصور الإسلامية الأولى بالأوقاف، فهي التي تمولها وتغذيها بما تدره عليها من غلات ومنافع، مما أهلها لأداء رسالتها تثقيفا وتقويما وتهذيبا وتلبية لحاجات الأمة.
الوقف على المدارس:
لوحظ في التاريخ الإسلامي والمغربي أن مجالات الوقف توسعت بعد ذلك لخدمة الدين والثقافة الإسلامية في أوسع معانيها فتعدى الجوامع والمساجد ليشمل المدارس والخزانات التي حبست على العلم والثقافة. وإدراكا لأهمية الوقف في التعليم فقد تشبث به المغاربة وجعلوه مصدرا شبه دائم لتمويل المؤسسات التعليمية واستمرارها في أداء رسالتها مما أضفى على التعليم طابعا أصيلا وجعل منه إلى حد كبير قطاعا مستقلا عن الأجهزة الرسمية حتى إن الحركة العلمية بالمغرب لم تزدهر إلا مع ازدهار الأوقاف على المدارس العلمية الخزانات وتزويدها بالكتب والمصنفات(2).
نماذج من المدارس التي أسهم الوقف في نشأتها واستمرارها:
من أهم هذه المدارس يمكن إيراد النماذج الآتية وإلا فهي كثيرة كلها قامت على الوقف وبالوقف؛ مثل مدرسة وكاك بن زلو اللمطي السوسي، ومدرسة عبد الله بن ياسين، ومدارس الصابرين، ومدرسة الحلفاويين، ومدرسة المخزن، ومدرسة الصهريج، ومدرسة السبعين، ومدرسة الوادي، ومدرسة العطارين، والمدرسة المصباحية، والمدرسة البوعنانية أو المتوكلية، ومدرسة الشراطين، ومدرسة بن صالح.
إن هذه المدارس لم تكن لتنشأ ولا لأن تستمر لولا الأملاك الكثيرة المحبسة عليها؛ التي تتكون من مختلف العقارات والأملاك فإلى جانب الدكاكين والمنازل والمصريات والحمامات والأفرنة والفنادق والأروية ودور عمل (محلات الصناع التقليدين) المنتشرة بمختلف أحياء المدينة كانت للمدارس أوقاف في المناطق القروية، حيث حبست عليها الأجنة والبساتين والمداشر.
- جامع القرويين:
تمثل جامعة القرويين أقدم وأقوى نموذج في مجال المؤسسات التي قامت على الوقف واستمرت قرونا إلى يومنا وكانت لها رسالة علمية وتعليمية وثقافية واسعة ربطت بين الثقافات وكانت مهوى الطلاب من مختلف مناطق العالم الإسلامي. وقد شكل النواة الأولى التي ترعرعت وتحولت إلى “جامعة القرويين” وذلك بفضل الثروات الحبسية الواسعة في المغرب وخارجه التي خصصت لها ووضعت تحت تصرفها وفي خدمتها، مما مكنها من أداء رسالتها والارتقاء إلى مستوى الأداء الحضاري الذي قل نظيره، فكثرت فيها الكراسي العلمية، وكثر فيها الطلبة المنتظمون الذين يتمتعون بالإقامة والمنح الدراسية، ونشأت ضمن القرويين وحواليها مدارس عديدة، تنافس في إقامتها وتجهيزها وتمويلها المحسنون المحبسون، ولم يقف العطاء العلمي لجامعة القرويين عند حدود المغرب الأقصى بل أصبحت قبلة للعلماء وطلاب العلم والباحثين من شتى الأقطار الإسلامية إذ وفدت إليها شخصيات علمية ودينية حتى من أوربا، وفي مقدمتهم البابا سلفستر الثاني الذي تلقى شوطا من تعليمه بالقرويين(3)، ومنهم الأسقف أندري (ت 938هـ) الذي كانت لم مناظرات أو مشاجرات مع علماء القرويين، والقسيس نيكولا كلينار (ت 949هـ) الذي ورد على فاس من أجل تحسين معارفه في اللغة العربية من علماء جامعتها(4). ومنهم جاكويسن كوليوس (ت 1032هـ) الذي اغتنم فرصة قيامه بمهمة رسمية بالمغرب ليزور القرويين ويستفيد من علمائها ومخطوطاتها(5).
وهذا يعني أن جامعة القرويين لم تبق مقتصرة على العلوم الدينية الإسلامية، بل اتسعت حتى شملت العلوم كافة بحسب كل عصر وما راج فيه من مواد علمية وتدريسية، فقد امتد التدريس بالقرويين إلى علوم اللغة والأدب وفنون البلاغة والتاريخ، وعلم الكيمياء والهندسة وعلم التوقيت والهيئة والفلسفة والمنطق، وعلم الجبر والمقابلة (الرياضيات) والطب والصيدلة، بل بلغ الأمر إلى حد إنشاء مدرسة للطب(6).
وبذلك لبت احتياجات واسعة للمجتمع المغربي في تكوين الفقهاء والقضاة والأساتذة والخطباء والعدول والموثقين، ورجال الدولة والأطباء والفلكين في سائر مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية.
- وقف الخزانات العلمية:
لم يقتصر الوقف على المساجد والمؤسسات العلم بل توسع إلى وقف المكتبات والوقف الأملاك عليها من أجل نشر العلم وتشجيع الطلبة ونشر الثقافة الإسلامية في المجتمع المغربي كافة: لأن إذ أدرك المغاربة مبكرا قيمة المكتبة في الرقي الحضاري لما لها من آثار تربوية مهمة، إضافة لذلك، فإن المكتبة تمد الطلاب في المراحل الدراسية المتقدمة بالمصادر والمراجع لإجراء البحوث وتنمية مهارات البحث العلمي والتعلم الذاتي(7).
ونظرا إلى تلك الأهمية التي للمكتبات في كل العصور، فإن الأوقاف كانت هي المصدر الذي ينفق منه عليها وعلى ما يلزمها من ترميم للبناء وتزويد بالكتب الجديدة ودفع مرتبات الموظفين، وكان المشرف على المكتبة يحصل ريع الوقف وينفقه على مصاريفه السابقة(8).
ولقد كان إنشاء المكتبات وتزويدها بالكتب في مختلف صنوف المعرفة وفتحها أمام طلاب العلم دون مقابل من أهم وأبرز المقاصد الثقافية والعلمية لمؤسسة الوقف(9).
وقد تنوعت المكتبات في تاريخ العالم الإسلامي عامة وفي المجتمع المغربي خاصة، فنجد الخزانات العمومية داخل المساجد والربط والزوايا، فضلا عن الخزانات الملكية التي تزين قصور السلاطين، ومما تجدر الإشارة إليه أن مدينة سبتة المغربية اشتملت على حوالي سبع عشرة خزانة ثمانية محبسة على أهل العلم، كان من أشهرها وأقدمها خزانة العالم الجليل أبي الحسن الشاري التي ابتناها من ماله، وهي أول خزانة وقفت بالمغرب على أهل العلم(10). ومن أشهر الخزانات التي قامت على الوقف وأدت رسالتها الحضارية في المغرب نذكر ما يلي:
- الخزانة العامة بالرباط، والخزانة الحسنية بالمشور بالرباط، وخزانة دار العدة بفكيك: (أوقفها عبد الحق ابن احمد بن موسى في أوائل القرن 10هـ تزيد مخطوطاتها على 5 ألاف مجلدا)، والخزانة الصبيحية بسلا،
فهذه المكتبات وغيرها كثير كان لها بعد ثقافي في جميع أنحاء العالم، وأسهمت في تنشيط الحركة العلمية والفكرية والثقافية في مختلف مراحل تاريخ المغب والعالم الإسلامي.
- الوقف على الكراسي العلمية:
ساهمت الأوقاف على الكراسي العلمية في نشر التعليم والثقافة الإسلامية في مختلف المساجد في العالم الإسلامي على مر التاريخ والكرسي العلمي ينشأ نتيجة إحساس الواقف بالحاجة إلى تدريس علم من العلوم، فيخصص أوقاف له من أجل بقائه واستمراره وهذا ما يفسر تنوع العلوم التي كانت تدرس في الكراسي العلمية من فقه وتفسير وأصول وحديث وقراءات(11).
وفي عهد المولى إسماعيل (ت 1727م) كان للكراسي العلمية دور طلائعي في نشر الثقافة والحفاظ عليها وتنميتها منذ عدة قرون وكان أشهر مركز تعليمي في جنباتها هو جامع القرويين، ثم جامع الأندلس ثم جامع الشرفاء… ولكن المركز الذي احتل قطب السبق في العطاء المعرفي هو جامع القرويين، وقد اشتمل هذا الجامع على 18 كرسيا يرجع إنشاء بعضها إلى النصف الأول من القرن السادس الهجري، وبعضها الآخر أنشئ فيما بعد ومن بين الكراسي العلمية بجامع القرويين التي بقيت مستمرة العطاء في عهد المولى إسماعيل هو كرسي المحراب، ويرجع تاريخ إنشائه إلى سنة 651هـ وقد بلغ عدد العقار المحبس على هذا الكرسي أكثر من 21 عقارا، منها 12 عقار للقراءة صباحا و9 للقراءة مساء(12).
ويستخلص مما سبق، أن الكراسي أدت دورا كبيرا في نشر وتنمية المجال الثقافي الإسلامي لما لها من أوقاف مخصصة لها، لما للدور العلمي الذي أدته عبر التاريخ.
على العموم ساهم الوقف على المدارس والخزانات والكراسي العلمية في ازدهار المغرب ونموه من الناحية الثقافية والفكرية لما لها من دور في نشر العلم ومساعدة طلاب العلم.
سامية الصالحي
———————-
1 – تاريخ الأوقاف الإسلامية بالمغرب في عصر السعديين من خلال حوالات تارودانت وفاس لمصطفى بنعلة (1/260 وما بعدها) بتصرف، مجلة أوقاف العدد 4 السنة ربيع الأول 1424/مايو 2003 م ص 96 بتصرف.
2 – مجلة دعوة الحق السنة السادسة والخمسون صفر 1434هـ/ يناير 2013م، ص 33.
3 – القرويين جامعا وجامعة 3/ 115 -116.
4 – القرويين جامعا وجامعة، 3/418.
5 – نفسه 3/419.
6 – نفسه القرويين جامعا وجامعة، 3/422-424.
7 – لمحات في المكتبة والبحث والمصادر، لمحمد عجاج الخطيب، ط 2، الرياض 1391هـ /1971م، ص 22-23.
8 – موسوعة الحضارة الإسلامية، التربية والتعليم في الفكر الإسلامي، أحمد شلبي، ط 11 مكتبة النهضة المصرية، 1999، ص 183.
9 – الوقف وبنية المكتبة العربية، يحيى محمود ساعاتي، ط 2، الرياض 1416هـ/ 1996م، ص 32.
10 – اختصار الأخبار الأنصار، ص 29.
11 – مجلة إبهام الوقف في تمويل المؤسسات التعليمية والثقافية بالمغرب خلال القرن العشرين (دراسة تحليلية لعبد الكريم العيوني، سلسلة رسائل جامعية، إدارة الدراسات والعلاقات الخارجية الأمانة العامة للأوقاف 1431هـ/2010م، ط 1، 1432هـ / 2011 م، ص 39.
12 – دور الوقف في الحياة الثقافية بالمغرب لسعيد بورگبة، ج 1، 1/215.