إلى أن نلتقي – سورة الإسراء وفتنة وسائل التواصل الاجتماعي


تداول عدد من مستعملي وسائل التواصل الاجتماعي ما وُصِف بأنه تحريف لعدد من أسماء سور القرآن الكريم، في إحدى طبعات المصحف الشريف، وتم التركيز بالأساس على سورة الإسراء التي سميت في هذه الطبعة ب “سورة بني إسرائيل”، ولقد أظهر ما تم تداوله صورا تظهر اسم الجهة التي أشرفت على هذه الطبعة، وتاريخ الطبعة، بالإضافة إلى الصفحة الأولى من السورة التي تظهر السورة بِاسم “سورة بني إسرائيل”. وبتداول هذه الصور، تَمَّ تعليل ذلك بأن الطبعةَ مُمالأةٌ للأعداء وموالاةٌ للإسرائليين، واستجابةٌ لرغبتهم حتى يكون لهم ذكر في القرآن الكريم.

ومن المعلوم أن تحريف القرآن الكريم، مهما كان بسيطا، لا يمكن أن يُقِرَّه مؤمن بكتاب الله، وحتى إن تمَّ مِن جهةٍ ما فإن ذلك التحريف سرعان ما ينكشف بوضوح، لأن الله تعالى هو الذي تولى حفظ كتابه من التحريف والتبديل، ثم إن أهل العلم من هذه الأمة بالمرصاد لمن تُسوِّل له نفسه ذلك. كما أنه من المسلَّم به أن مُمالأة الأعداء وموالاتهم لا يُقِر بها مواطن سليم المواطنة، فكيف بمؤمن صادق الإيمان.

لكن المسألة هنا لا تتعلق بالإيمان أو التحريف، ولكن بما يمكن تسميته ب”فتنة وسائل التواصل الاجتماعي” التي أصبحت إدمانا عند العديد من مستعمليها، ومن ثَمَّ يُمرَّر فيها كل غث وسليم، وإن الغث أكبر وأشد، حتى ولو كان في ظاهره سليما: فَكَم من حدَث مزيف مزور لا أساس له من الصحة تداولَه الناس عبر هذه الوسائل، فتَضرَّر به أشخاص، وهُدِّمت به أركان أُسَرٌ. وكم من حديث قيل عنه إنه نبوي، ولكنه حديث موضوع لا أساس له من الصحة. وكم من خبر باطل، متعلق بهذا أو ذاك من أفراد المجتمع؛ علماء ودعاة ومفكرين وساسة وموظفين ومهنيين، تبادله الناس متعجبين مستنكرين. وكم من معلومة باطلة قيل إن لها تأثيرات معينة إن تم إرسالها لعشر من الناس أو أكثر، وكم وكم..

طبعا لا يمكن أن يُنكر دور وسائل التواصل الاجتماعي في البناء والإصلاح وتقويم الاعوجاج، فكم نقلت من مآسي الشعوب والأقليات والأشخاص ووثقتها وبينت للرأي العام ما يحدث لها، وكم من فاسد افتضح أمره بسببها، وكم من مسؤول اضطر إلى الاستقالة بعدما كشفت هذه الوسائل أخطاءه ونشَرتها، وكم من سياسي دُفع إلى التواري بعد أن بينت مزالقه ونزواته، وكم من شركة أُجبرت على الاعتذار إلى عُمَّالها وزبنائها بعد تداول الناس عبر هذه الوسائل إساءات أو سوء تعامل أو غش في الإنتاج، وخاصة في الدول المتقدمة التي يؤدي فيها الإعلام دورا إيجابيا ويمثل فعلا السلطة الرابعة، إن لم نقل السلطة الأولى. وهذا هو الحُلم الذي يُؤمل أن يتحقق في بلادنا لتؤدي هذه الوسائل دورها البنَّاء.

لكن ما يتعلق بسورة الإسراء وغيرها من السور التي سميت بأسماء أخرى ليست من هذا القبيل على الإطلاق لسببين:

أولهما أن سورة الإسراء وغيرها من السور عرفت بأكثر من اسم. والذي يعود إلى التفاسير وكتب علوم القرآن يجد ذلك واضحا؛ ويمكن أن نكتفي هنا بالنصين التاليين:

الأول: جاء في التحرير والتنوير في بداية تفسير سورة الإسراء ما يلي: “سُمِّيَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ سُورَةَ الْإِسْرَاءِ…إِذْ قَدْ ذُكِرَ فِي أَولهَا الْإِسْرَاء بالنبي  وَاخْتُصَّتْ بِذِكْرِهِ. وَتُسَمَّى فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ فَفِي (جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ) فِي (أَبْوَابِ الدُّعَاءِ) عَنْ عَائِشَة َ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: “كَانَ النَّبِي  لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الزُّمَرَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ”…وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِهَا…”.

الثاني: ما جاء كتاب الإتقان في علوم القرآن للسيوطي في فصل بعنوان: “قَدْ يَكُونُ لِلسُورَةِ اسْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ كَثِيرٌ وَقَدْ يَكُونُ لَهَا اسمان فأكثر”. وتتبع الأسماء التي لها أكثر من اسم، إلى أن قال عن سورة الإسراء: “الْإِسْرَاءُ: تُسَمَّى أَيْضًا سُورَةُ سُبْحَانَ، وَسُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ”.

وأما السبب الثاني فهو أن هذه الطبعة من المصحف التي وردت فيها هذه الأسماء موجهة إلى مسلمي آسيا في الهند وباكستان وبنغلاديش وغيرها، التي جرى فيها العرف على اعتماد طبع المصحف بهذه الأسماء لتلك السور.

أ.د. عبد الرحيم الرحموني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>