عن أبي بكرة عن النبي خطب في حجة الوداع ـ فقال في خطبته: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السَّنَة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، مضر الذي بين جمادى وشعبان.» (1)
تقديم:
يفيد الحديث النبوي الشريف بألفاظه ومعانيه، أن عدد أشهر السنة اثنا عشر شهرا، وتتضمن أربعة أشهر تدعى “بالأشهر الحرم” ومما لا يختلف فيه اثنان أن الله تعالى قد اختار أزمنة وأمكنة شرف بعضها عن بعض، وجعل بعضها أعظم من بعض، ومن ذلكم الأشهر الحرم.
وعليه، فإن من أبرز الدلائل وأعظم البراهين على استشعار حرمة هذه الأشهر الحرم الأربعة، الحذر من ظلم النفس فيها وذلك بالابتعاد عن اجتراح السيئات، ومقارفة الآثام، واقتراف كل ما يخل بحرمة هذه الأشهر المعظمة، امتثالا لأمر الله تعالى: فلا تظلموا فيهن أنفسكم (التوبة: 36). فالذنب في كل زمان سوء وظلم للنفس، لكنه في الأشهر الحرم أشد سوءا وأعظم شؤما، لكونه يجمع بين الذنب وبين امتهان حرمة ما حرمه الله وعظمه.
• فضل شهر الله المحرم:
إن احترام شهر الله المحرم كان أمرا متوارثا عند أهل الجاهلية، يكفون فيه عن سفك الدم الحرام، مع ما هم عليه من جرم وظلم، وشرور وآثام، فمن الأجدر بالمسلم أن يعظم ماعظم الله، وذلك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، لأنه يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه. ومما جاء في “لطائف المعارف” عن الحسن أنه قال: “إن الله افتتح السنة بشهر حرام، وختمها بشهر حرام، فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من الحرم، وكان يسمى شهر الله الأصم من شدة تحريمه”(2).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في قوله تعالى: فلا تظلموا فيهن أنفسكم(التوبة: 36). في كلهن، أي فلا تظلموا في الأشهر كلها أنفسكم، واختص من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن حُرُما وعظم حُرُماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.(3)
ومن فضائل شهر محرم: أنه يستحب الإكثار من صيام النافلة فيه، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم…..».(4)
فقوله “شهر الله” من باب إضافة التعظيم، كما أن من أفضل أيام شهر محرم، اليوم العاشر، حيث صا مه الرسول وأمر بصيامه، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قدم النبي المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: «ما هذا؟» قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، قال: «فأنا أحق بموسى منكم» فصامه، وأمر بصيامه.(5)
بل إنه أراد مخالفة اليهود بصيام هذا اليوم، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع» وفي رواية أبي بكر: قال: يعني يوم عاشوراء.(6)
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله : «صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، صوموا قبله يوما، أو بعده يوما».(7)
بل إن صوم يوم عاشوراء يكفر الله به خطايا عام بكامله، فياله من فضل عظيم وخير عميم!! قال الرسول «صيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله».(8)
• دروس وعبر مستفادة من شهر الله المحرم:
أنه شهر النصر لنبي الله موسى وقومه على فرعون الطاغية، بالرغم من كثرة عددهم وعتادهم، فالظلم نتائجه وخيمة، والباطل لا يقاوم الحق، والله إذا أخذ الظالم لم يفلته، فهو قادر على أن ينصر دينه وكتابه وأولياءه وعباده الصالحين، ولو كره الكافرون، قال تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاَشهد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار(غافر: 51-52).
يوم عاشوراء، هو اليوم الذي قال فيه سيدنا موسى لقومه وهم ينظرون إلى فرعون وجنوده خلفهم، فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون(الشعراء: 61) فكان جواب سيدنا موسى بإيمانه القوي، وثباته على الحق: كلا إن معي ربي سيهدين(الشعراء: 62) فسيدنا موسى فوَّض أمره إلى الله، وأنعم به من تفويض، فمهما كان للعدو من قوة، فقوة الله فوق كل شيء، وقدرته لا يعجزها شيء في الارض ولا في السماء، قال تعالى: فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا(مريم: 84).
وفي يوم عاشوراء، قال فرعون المتجبر المتكبر الذي ادعى الألوهية، وقد أيقن بأن الهلاك مآله،: حتى إذا أدركه الغرق قال ءامنت أنه لا إله إلا الذي ءامنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين(يونس: 90) فكان الجواب من عند الله على هذا الإيمان الكاذب، فقال عز من قائل: آلان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين(يونس: 91).
وفي يوم عاشوراء، اتضح للناس جليا أن الحق دائما ينتصر على الباطل، فهذا فرعون الذي ظن أنه لا أحد ينازعه ملكه، أو يهزم جنده، حيث أعلن بكل جرأة ووقاحة بأنه الرب الأعلى، لكن حين شاء القوي القدير أن يحل العذاب بفرعون، ما أغنى عنه ملكه وسلطانه، ولا جنده وأعوانه، فأخذه الله نكال الأخرة والاولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى(النازعات: 25-26).
• محرم والهجرة النبوية:
اليوم الأول من شهر محرم، ذكرى رأس السنة الهجرة النبوية، وبداية عام هجري جديد.
والصحيح المشهور أن عمر بن الخطاب أمر بوضع التاريخ الهجري، وسبب ذلك أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر بن الخطاب إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ فجمع عمر الناس للمشورة، فقال بعضهم أرخ بمبعث النبي وقال بعضهم أرخ بهجرة النبي فقال عمر بن الخطاب بل نؤرخ بهجرة النبي فإن هجرته فرقت بين الحق والباطل.
وقال سعيد بن المسيب: جمع عمر الناس فقال من أي يوم نكتب التاريخ فقال علي بن أبي طالب من هجرة رسول الله وفراقه أرض الشرك، ففعله عمر، وكان ذلك سنة سبع عشرة من الهجرة(9) فوقع الاختيار على هذا اليوم، لأن المحرم هو بداية السنة الهلالية العربية، ثم إنه أهم حدث في تاريخ الدولة الإسلامية، ولأنه أظهر من المولد والمبعث، وأضبط لئلا تختلف الشهور، وهو منصَرَف الناس من حجهم، بل هو بداية إقامة دولة الإسلام.
وختاما نقول: إن شهر الله المحرم مليء بالأحداث والدروس والعبر، وفضائله كثيرة ومتنوعة فهو شهر ليس كباقي الشهور، وأيامه ليست كباقي الأيام، فيه انتصر الحق على الباطل، ولقد أحسن الاختيار عمر حينما جعل بداية تاريخ التقويم الهجري، وقت هجرة النبي من مكة إلى المدينة، باعتبارها سببا في إنشاء القاعدة الأولى للخلافة الإسلامية، والله تعالى أعلى وأعلم.
ذ. علي السباع
———————
1 – صحيح البخاري: باب قوله : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا…. ج 6 ص 66.
2 – لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف: لابن رجب الحنبلي، ج 1، ص 34.
3 – تفسير الطبري: ج 14، ص 238.
4 – صحيح مسلم: باب فضل صوم المحرم، ج2 ص 821.
5 – صحيح البخاري: باب صيام يوم عاشوراء، ج 3 ص 44.
6 – صحيح مسلم: باب أي يوم يصام في عاشوراء، ج 2 ص 798.
7 – صحيح ابن خزيمة: باب الأمر بأن يصام قبل عاشوراء يوما أو بعده يوما مخالفة لفعل اليهود في صوم عاشوراء. ج 3 ص 290.
8 – سنن الترمذي: باب ما جاء في الحث على صوم يوم عاشوراء، ج 3 ص 117.
9 – الكامل في التاريخ: لعز الدين ابن الأثير، ج 1، ص 12/13.