درر من المناقب المحمدية، ودلالات من الهجرة النبوية  


إن المقصد الأسمى لكل مقول أو مكتوب أو مصور عن سيد الناس ، إصلاح النفوس على ضوء أخلاقه التي لا تحصى، وشمائله الحسنى التي لا تستقصى، فإن من أدمن تدبرها، وأحسن الإصغاء إليها، وجاهد في اتباعها علا منصبه، وعظمت مكانته؛ لأن ذكر محمد  من شعب الإيمان، وكمال الإسلام، لما يثمر من توقيره وتعظيمه، وإجلاله وتكريمه، وإيثار حبه على كل محبوب، فقد قال الله في محكم كتابه: لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه(الفتح :9)، قال ابن عباس حبر هذه الأمة: “أي تبالغوا في تعظيمه”. وإن من توقيره وحبه ذكر شمائله التي تحرك قلوب المحبين، ومدارسة سيرته التي تزيد في إيمان المؤمنين، ألا وإن الأسعد بوسام الاحتفاء به وتكريمه من داوم على امتثال أوامره، واستلهم مقاصد أقواله وأفعاله وتصرفاته، فاعتبر بحلمه الذي فاق حلم كل ذي حلم، وتدبر في شجاعته، وعدله، وعفته، وحيائه، وتوحيده، وتعبده، وحسن توكله، وسخائه، وتواضعه.

ولئن كانت الهجرة مرحلة عظيمة وحاسمة في سيرة سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، فارتضاها أرباب الفهم، وأعلام الهداية رضوان الله عليهم، للتقويم في تاريخ الإسلام، فإن السؤال عن مقاصدها وخبايا أسرارها من ألطف الموضوعات، التي تشتد العناية بها في أوقات الرخاء، وعند اشتداد الأزمات. والمنطلق فيها أن فضائل الإمام المتبوع موروثة في الأمة التابعة، لا يضيع شيء منها في أفرادها، إلا وهو محفوظ في مجموعها، فهي أمثل الأمم بلاء، وأسدها اهتداء، وأرحمها، وأولاها عدلا، وأعرفها بالخالق، وأعبدها له. ولئن تنكبت ردحا من الزمان عن سبل العز، وانقطعت بها الحيل، فإن أجيالها مدعوة بصفة فورية، للاعتبار بالهجرة المحمدية، وما فيها من الدلالات الهادية. وإني مجمل بعضها فيما يلي:

• أن الإسلام إلى عز ومنعة: إن بعز عزيز أو بذل ذليل، لا يزيده سواد الأيام أو بياضها إلا ثباتا في القلوب، وامتدادا في العقول، ولا تعيقه المكايد والدسائس؛ لأن غاية ما يناله أعداؤه تنقص بعض الأرواح من المومنين، أو اختلاس بعض أموالهم، أو ما دون ذلك من الأذى.

• وأن المنهج الأسلم لحملة الإسلام ودعاته، سلمي مدني بالأساس، يدافع الحجة بالحجة، فقد أمر  بالصبر في حال القلة، ولم يأذن باستعمال القوة إلا عند الضرورة. وفرض الهجرة مقدم في كتاب الله على فرض الجهاد، وقد أمضى نبي الله  أزيد من عشر سنوات يعلم الناس فقط؛ أن لا يدعوا مع الله أحدا، فأرشد بسيرته إلى الترفق بالناس، وتقديم تعليمهم وتنقية معتقداتهم، قبل مجادلتهم بأحكام وتشريعات، أو الإنكار عليهم في انزلاقات ومخالفات، وربى أتباعه على أن جماع الخير كله الصبر، وقد استفرغت قريش قواها في إذاية المسلمين، وبذلت جهدها في منعهم من معتقدهم وشعائرهم، بل منعتهم من الهجرة التي هي أحد معالم الصبر.

• أن الدين أكبر مقوم في مفهوم الوطن: فأوثق عرى الإسلام بعد الإيمان؛ الهجرة، وهي شديدة المرارة، وفي غاية الخطر، لا يطيقها إلا الأقوياء؛ لما فيها من تحمل الغربة وشتات الشمل، وتجشم المشقة، إذ هي: التخلي عن مكان وعشيرة شأنهم الاغتباط بهم، إلى مكان وقوم آخرين يقل فيهم الضرر، وأكبر ضرر يدفع إليها الفتنة في الدين، وعدم الأمن. تفارق النفوس مألوف بلدانها، وأهل ودها من ذوي رحمها، وأولي قربها وجوارها، وتخاطر بترك أملاكها وسائر نعمها، طلبا لما هو أجدر بالفخر، فمن لم يطق الهجرة، وكان قادرا عليها، فقد ظلم نفسه بتركها، واستحق العتاب والتوبيخ؛ كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا(النساء: 97)، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين؛ يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله ، يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله تعالى: إن الذين توافاهم الآية. ومثله في الدلالة قوله تعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُون(العنكبوت: 56)، أرض الله واسعة، لا قدسية لبعض أطرافها بذاته، فمن لم يتمكن من عبادة ربه التي هي غاية وجوده بسبب معاندين من قومه، يفتنونه؛ فليهاجر إلى أرض أخرى يأمن فيها ويتمكن من عبادة ربه. فقد قال الخليل : إني ذاهب إلى ربي سيهدين(الصافات: 99)، وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(العنكبوت: 26)، هاجر ابراهيم  إلى مكة ليؤسس البيت العتيق، وتركها محمد  طلبا لعز ومنعة، يَسْتَقْوِي بهما، لاسترجاع مكانة الكعبة. على أن إثم مفارقة الوطن المشرب حبه لكل قلب، إنما يتولاه المعاندون الذين يلجئون بني وطنهم إلى الهجرة، بأصناف ما يسومونهم من العذاب، قال الله سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ(محمد: 13)، كأن القرية -وهي مكة هنا– هي التي أخرجت الرسول وأصحابه، وإنما أخرجه أهلها باجتماع كلمتهم على تكذيبه، وإذايته، وإلجائه وأصحابه إلى النزوح عن ديارهم، فاستحقوا الملامة والإثم والعقوبة، فلا ناصر لهم. وإنما تميل النفس إلى القعود لأنها لا تطيق تجشم فراق الوطن؛ ولا تحتمل مشاق الهجرة المادية والمعنوية، لكن الذي هونها في قلوب الرعيل الأول -رضوان الله عنهم- التفويض لأمر الله جلَّ وعلا، والاستجابة لأمر رسوله . ولذلك اختص المهاجرون الأولون بالسبق لمن بعدهم إلى قيام الساعة؛ سبقوا بالإيمان الذي هو رأس الفضائل، وتحملوا أنواعا من العذاب زماناً طويلاً، وصبروا على فراق العشيرة والوطن. ثم يتلوهم أهل النصرة، من المؤمنين الذين آووا من هاجر إليهم، فأسكنوهم ديارهم، وقسموا لهم من أموالهم. قال الله جل في علاه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا(الأنفال: 72). فلما فتحت مكة، انقطعت الهجرة لظهور الدين، وبقيت النية الخالصة المدلول عليها بهجرة ما نهى الله عنه ورسوله، ومجاهدة النفس وأطرها على الحق لقوله : «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»، وقوله: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عمرو).

• مفهوم الأمة مؤسس على قيمتي الأخوة والنصرة: كما أظهرت الهجرة مكانة المهاجرين، وصدقهم وصبرهم، وحبهم للنبي والدين؛ في مفاخر دونتها كتب الحديث والسيرة -حتى إن المرء ليعجب لخفة عقول قادة قريش؛ كما شهد ابن الدغنة فقال لأبي بكر  لما أراد الهجرة: “إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق”، فذكر الأوصاف التي شهدت بها خديجة رضي الله عنها للرسول  لما رجع يرتجف من تجلي جبريل  فإنها أبانت عن صدق إيمان الأنصار ومعدن النصرة فيهم، واستعدادهم لاحتضان الدين، وكفالة حملته، وحمايتهم، وهي صفات مطلوبة دوما فيما تلاقيه أمة الإسلام وتعانيه؛ من صنوف العذاب؛ حصارا كان، أو تضييقا، أو تهجيرا، ففي الحديث: «أمتي هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة؛ عذابها في الدنيا الفتن والزلازل، والقتل» (سنن أبي داود – كتاب الفتن والملاحم)، فالحكمة النبوية تقضي بتوافر فقه إغاثي إنقاذي؛ يستلهم فيه المؤمنون قيم النصرة، ويحيون به ذكرى الأنصار. ولقد كان من مقتضيات هذا الفقه المنسوخة؛ أن تكون الهجرة أحد أسباب التوارث في الإسلام، في أبلغ برهان على قوة رابطة الأخوة، فكان المهاجر يرث من المهاجر، وإن كان أجنبيا عنه، ولا يرثه غير المهاجر، وإن كان من أقاربه، وكان النبي  يؤاخي بين كل اثنين من أصحابه، فكان ذلك سببا للتوارث، حتى نزل قول الله: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله(الأنفال:75). ولئن صار الغوث والإنقاذ اليوم إنسانيا كونيا، فإن على أهل الإسلام أن يكونوا فيه أقدر، ويحوزوا الحظ الأوفر، فإن الله تعالى قال: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا(النساء: 32). وإنه سبحانه يعطي على النصرة والغوث من النعم والمراتب الجليلة، كما يعطي أجر الهجرة على الانتقال عن ترك مأموراته، وفعل منهياته، وفي الحديث: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عمرو).

د. عبد الواحد الإدريسي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>