مع كتاب الله تعالى – الفرقان في القرآن


الحديث في القرآن الكريم كان ومازال موضع اهتمام المسلمين على مر العصور، مصداقاً لقوله : «لا تنتهي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد». من هنا كان الكلام وسيبقى حول المفاهيم القرآنية، سواء التي جدّت بلفظها، أو تلك التي جدّت بدلالتها مع نزول القرآن الكريم، باباً مثمراً في الدراسات اللغوية والشرعية على سواء. وأود في هذا المقال الحديث عن مصطلح (الفرقان) في القرآن الكريم، وقد كنت كتبت فيه من قبلُ في بحث سابق، لكنّ المرء مع إعادة النظر في أي أمر، يَجِدُّ له شيء لم يكن قد تنبّه إليه من قبل.

جاء لفظ (الفرقان) في القرآن بهذه الصيغة معرفاً بأل في ستة مواضع في خمس سور. وورد مرة واحدة نكرة بصيغة (فرقاناً). وهي كالآتي:

  • وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(البقرة: 53).
  • شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ(البقرة: 185).
  • نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ(آل عمران: 3-4).
  • نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ(الأنفال: 41).
  • وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ(الأنبياء: 48).
  • تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا(الفرقان: 1).
  • يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا(الأنفال: 29).

عَرَفَ العرب مادة (الفرْق)، و(الفَرْق) و(الفِرْق) خلاف الجمع، من “فَرَق يفرُق فرْقاً: فصل، وفَرْق الرأس: ما بين الجبين إلى الدائرة، قال أبو ذؤيب الهذلي:

ومَتْلفٍ مثل فَرْق الرأس تَخْلِجُه

مَطاربٌ زَقَبٌ أميالُها فيحُ(1)

• والفرْق: تفريق بين شيئين فرْقاً حتى يَفْترِقا ويَتَفرّقا، وتَفَارَقَ القومُ: افترقوا: أي فارق بعضُهم بعضاً”(2). “وقيل: التّفرق للأبدان والافتراق في الكلام… وفَرَقْتُ بين الشيئين أفرُق فرْقاً وفُرقاناً، وفرّقت الشيء تفريقاً وتفرِقة فانفرق وافترق وتفرّق، وفَرَق له عن الشيء: بيّنه له. والفرقان: القرآن، وكل ما فُرِق به بين الحق والباطل فهو فرقان. والفُرْق أيضاً: الفرقان، من أسماء القرآن؛ أي إنه فارق بين الحق والباطل والحلال والحرام، ويقال: فَرَق بين الحق والباطل، ويقال: فَرَق بين الجماعة”(3)، قال عدي بن الرقاع العاملي:

والدّهر يَفْرُق بين كلِّ جماعةٍ

ويَلُفُّ بين تباعدٍ وتناءٍ(4)

• والفرقان في القرآن لا يختلف تماماً عما هو في الأصل اللغوي، فالفرقان بالنظر في الآيات الكريمة: “التفريق بين الحق والباطل، والحجة والشبهة سواءٌ أكان بما يدركه البصر أم تدركه البصيرة”(5)، وربما جاء هذا المعنى من معنى جاءت به معاجم اللغة، ففي لسان العرب وتاج العروس جاء: “…والفَرْق: ما انفلق من عمود الصبح؛ لأنه فارَق سواد الليل، وقد انفرق”(6).

• من هنا كان الفرقان في القرآن مفهوماً جديداً بهذا المعنى الجديد، فكان علماً “على كل كتاب سماوي أنزله الله تعالى ففرق به بين الحق والباطل؛ فالتوراة فرقان، والإنجيل فرقان، والزبور فرقان، والقرآن فرقان”(7) “فالفرقان: كل كتاب أنزل به فَرْقُ الله بين الحق والباطل”(8)، يقول تعالى:

ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان(الأنبياء: 48)تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده(الفرقان: 1).

وكان علماً على المعجزات التي رافقت الكتب السماوية، التي هي فرقان أصلاً، قال تعالى: وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدوننزّل عليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان(آل عمران: 3-4).

وقد أكد هذا المفسرون، يقول الفخر الرازي: “هي المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال الكتب لتفرق بين دعوى الأنبياء ودعوى الكاذبين” (9). كما كان عَلَماً على غزوة بدر الكبرى؛ إذ فرّق فيها الله بين الحق والباطل؛ فنصر المسلمين على قلتهم على الكافرين على كثرتهم، فانتصر المسلمون بعقيدتهم الراسخة بأن هذا الدين حق، وبإيمانهم أن النصر من عند الله، وبدعاء رسول الله  في هذه المعركة الفاصلة في تاريخ الإسلام، حيث كان يناشد ربه ما وعده من النصر “فجعل يهتف بربه اللهم أنجز لي ما وعدتني! اللهم آت ما وعدتني! اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض! … فأتاه أبو بكر .. وقال يا نبي الله: كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك” فكان ذلك، فسمي يوم بدر في القرآن يوم الفرقان، يقول : وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ(الأنفال: 41).

جاء في تفسير لفظة الفرقان، أن الفرقان هو القرآن، وقد سمي فرقاناً لأنّه “فَرْق بين الحق والباطل والمؤمن والكافر، ولأن فيه بيانَ ما شرع من حلال وحرام” (10) “ولأنه فَرْق في النزول كما قال تعالى: وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً(الإسراء: 106) وهذا أقرب لأنه قال: تبارك الذي نزَّل الفرقان(الفرقان: 1) و(نزّل) تدل على التفريق، أما قوله تعالى: (أنزل) فتدل على الجمع، لذلك قال تعالى في سورة آل عمران: نزّل عليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل(آل عمران: 4) (11) وجميعنا يعلم أن القرآن الكريم لم ينزل جملة واحدة إنما نزل متواتراً.(12)، لذا جاءت (نزّل) مع القرآن الكريم، و(أنزل) مع التوراة والإنجيل، إذ نزلتا مرة واحدة، والقرآن نزل منجماً.

وقد اختلف المفسـرون في لفظ (الفرقـان) الذي ذكـر في سورة البقـرة في الآية (185): هدىً للناس وبيّنات من الهدى والفرقان، وهذه الآية تدل يقيناً على أن القرآن غير الفرقان، وأن الفرقان ليس خاصاً فقط بالقرآن كما يحب بعض الناس أن يجزم، يقول تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فذهب الرازي إلى أن (الهدى والفرقان) هما: التوراة والإنجيل: أي إن القرآن هو نفسه هدىً للناس، لكن فيه أيضاً هدى من الكتب المتقدمة(13)، وهذا ليس بالأمر الغريب؛ ذلك أن الكتب السماوية منزلةٌ من رب واحد والدين واحد، ودعوته واحدة هي توحيد الله .

و(فرقاناً) في آية الأنفال التاسعة والعشرين: (ويجعل لكم فرقاناً)، لا تختلف أبداً عن (الفرقان) التي في الآيات السابقة؛ أي: يفرق بينكم وبين الكفار، فاللفظ مطلق ويجب حمله على جميع الفروق بين المؤمنين والكفار، وهو إما في أحوال الدنيا وإما في أحوال الآخرة(14).

ولا بد من الإشارة إلى أن كتب الأشباه والنظائر (الاشتراك اللفظي) قد عَدَّت الفرقان من هذا النوع، إذ له ثلاثة أوجه هي: النصر كما في قوله تعالى: وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان. والقرآن كما في قوله: تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده، والمخرج في مثل قوله : وبيّنات من الهدى والفرقان، أي المخرج في الدين من الشبهة والضلالة(15). وأيّاً كان المعنى، فإن دلالة الجذر تدل على التفريق بين الحق والباطل، ولكن باختلاف الوسيلة وما يوحي به السياق(16).

لفظ (الفرقان) إذن، لفظ قرآني يحمل معنا جديدا لم تعرفه الجاهلية، ولم يُذكر في أشعارها، بهذه الدلالة العامة، وهي كل ما يفرق بين الحق والباطل.

وبعدُ، فمما سبق من بيان للفرقان في القرآن، نخلص إلى أن:

- الفرقان، منهج حياة للمسلم، فيه يفرق بين الصواب والخطأ في أعماله وأقواله، فيميز الخبيث من الطيب، وعليه فهو يحاسِبُ نفسه قبل أن يحاسَبَ.

- وهو منهج في التمييز بين الحق والباطل في حياة الناس العامة بكل مناحيها، فنحن في زمنٍ، بات (الفرقانُ) فيه ضرورةً، تماماً كحاجة الناس إليه يوم بدر؛ إذ كان ذلك الفرق بين الحق والباطل في ذلك اليوم الجليل، سبباً إلهياً في بقاء هذا الدين إلى أن تقوم الساعة، فكان الفرقان إذ ذاك منهجاً ربانياً.

- ونحن اليوم اختلطت الأمور على الناس، في ظل ما يجري في بلادنا من ممارسات بعيدة عن النهج الرباني والهدي النبوي؛ فبتنا نسمع هذه الأيام من بعض من يحمل بعض العلم –أو يدّعي حمله- ما أنزل الله به من سلطان من فتاوى، في شؤون الحياة كلها، دينية واجتماعية وسياسية واقتصادية، وهذا كله مما يلزم أن تدركه البصيرة المسلمة، فيكون (الفرقان) في حياة الفرد المسلم والجماعة المسلمة، منهجاً عقدياً ومسلكياً، يُميز به المؤمن عن الكافر، والصالح من الطالح والحلال من الحرام، فقد أراد الله  أن يكون (الفرقان) منذ بعثة الرسل منذ آدم  وحتى محمد  منهج هداية للبشرية، وهذا مما يدل على أن الدين واحد، من رب واحد، لغاية واحدة هي التوحيد، ولن تقوم قائمة لهذه الأمة إلا باتباع نهج المُوَحَّدِ سبحانه.

دة. تمام السيد

———————–

1 – ديوان الهذليين، ج1، ص110. متلف: طريق يتلف فيه الناس من خبثه. مثل فرق الرأس: أي في ضيقه. تخلجه: تجذبه. مطارب زقب: طرق ضيقة. فيح: واسعة. يريد الطريق ضيقة لكن الأميال واسعة.

2 – الفراهيدي، العين، مادة (فرق). ابن دريد، جمهرة اللغة، مادة (فرق). ابن منظور، لسان العرب، مادة (فرق). الزبيدي، تاج العروس، مادة (فرق).

3 – ابن منظور، لسان العرب، مادة (فرق). الزبيدي، تاج العروس، مادة (فرق).

4 – العاملي، عدي بن الرقاع. ديوان عدي بن الرقاع العاملي، جمع وشرح ودراسة: حسن محمد نور الدين، (ط1)، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، (1990م)، ص55.

5 – الفراهيدي، العين، مادة (فرق). ابن منظور، لسان العرب، مادة (فرق). الزبيدي، تاج العروس، مادة (فرق).

6 – ابن منظور، لسان العرب، مادة (فرق). الزبيدي، تاج العروس، مادة (فرق).

7 – ابن منظور، لسان العرب، مادة (فرق). الزبيدي، تاج العروس، مادة (فرق).

8 – الفراهيدي، العين، مادة (فرق).

9 – الفخر الرازي، التفسير الكبير: م4، ج7، ص140.

10 – صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم.

11 – القرطبي، تفسير القرطبي، م7، ج13، ص2.

12 – الفخر الرازي، التفسير الكبير، م12، ج24، ص40.

13 – انظر: الفخر الرازي، التفسير الكبير: م3، ج5، ص75.

14 – انظر: الفخر الرازي، التفسير الكبير، م8، ج15، ص123.

15 – انظر: ابن موسى، هارون. الوجوه، والنظائر في القرآن الكريم، تحقيق: حاتم صالح الضامن، دائرة الآثار والتراث، وزارة الثقافة والإعلام، دار الحرية، بغداد، العراق،(1989م)، ص56.

16 – انظر: المنجد، محمد نور الدين. الاشتراك اللفظي في القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق، (ط1)، دمشق، دار الفكر، (1999)، ص202.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>