عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»(أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما).
توطئة للحديث:
هذا الحديث متفق على صحته، وهو أصل في تحمل المسؤولية والمحاسبة عليها، ومن أخطرها مسؤولية الآباء (الأب والأم في البيت) عن رعاية أبنائهم، وهذه المسؤولية لا تسقط عنهم بأي حال من الأحوال، كما أنه لا يمكن أن ينوب أحد عنهم في أدائها، فشخصية الابن (بمكوناتها الثلاثة: العقلية والنفسية الوجدانية والحس _ حركية بتعبير المتخصصين في التربية) يتشكل 90 % منها في السنوات السبع الأولى، حيث يتشكل عند الطفل المفهوم الذاتي الذي فيه التقبل والإدراك والقيم وهي أهم السنوات في عمر الإنسان على الإطلاق (الدكتور مصطفى أبو سعد).
وعليه فمسؤولية الأسرة بحكم كثرة احتكاكها بالأبناء في هذه المرحلة العمرية، مسؤولية كبيرة وفي غاية الأهمية، لا يمكن أن ينوب عنها أحد في القيام بها.
من خلال هذا الحديث سنحاول التركيز على الجزء الذي يعنى بمسؤولية الأسرة عن رعاية أبنائها: التي هي التعرف على معنى الرعاية؟ وعن الجهات المؤثرة سلبا أو إيجابا في العملية التربوية؟ وكيف السبيل لتحصين الأبناء من التأثيرات السلبية للمتدخلين؟
من معاني الحديث:
فقوله : «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» فيه تنبيه إلى تحمل كل فرد المسؤولية في الرعاية، وهي من الأمور التي أولاها الإسلام أهمية عظيمة: المسؤولية، والمسؤولية في الإسلام تعني أن المسلم المكلف مسؤول عن كل شيء جعل الشرع له سلطاناً عليه، وهكذا فسلطانه على نفسه تترتب عنه مسؤوليته الشخصية، وسلطانه على غيره تترتب عليه مسؤوليته الجماعية.
ويدخل تحت مسمى المسؤولية الفردية مسؤوليته عن نفسه وجوارحه وبدنه، روحه وعقله، علمه وعملِه، عباداته ومعاملاته، مالِه وعُمره….
وهذه مسؤولية لا يشاركه في حملها أحد غيره، فإن أحسن في أدائها تحقق له الأجر والثواب، وإن أساء وأخل بها جنى العذاب، روى الترمذي عن أبي برزة الأسلمي أن رسول الله قال: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، ومن علمه فيم فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» (أخرجه الترمذي في صفة القيامة).
أما المسؤولية الجماعية فتتضمن:
أولا: المسؤولية الكبرى في الإمامة العظمى، في تحكيم شرع الله في أرض الله على عباده، وكذا القيام بالمسؤوليات في الوظائف العامة، عدلاً في الرعية، وقَسماً بالسوية، ومراقبةً لله وحده في كل قضية. وكذا الحفاظ على الأموال والممتلكات والمرافق العامة وهي المقصودة بقوله : «فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (المسؤولية في الإسلام. عبد الرحمن السديس)
ثانيا: مسؤولية الأسرة: وهي المقصودة بقوله «وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ».
فمسؤولية البيت والأبناء مسؤولية مشتركة بين الرجل والمرأة، إلا أن الحديث حدد بدقة هذه المسؤولية، فالرجل راع على أهل بيته، ومسؤول عنهم، وأهل البيت هم ساكنوه: الزوجة والأبناء والآباء والإخوة …
وقد حدد الإسلام طبيعة مسؤولية الرجل في الأسرة إذ جعل مفتاحها كلمة “قوَّام” أي كثير القيام على شؤون الأسرة، وتقتضي القوامة الإحسان والقسط ورعاية المصلحة في شؤون من أوكل إليه أمرهم، قال تعالى: الرجال قوَّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم(النساء: 34).
أما الزوجة فراعية على البيت والولد ومسؤولة عنهم. فتنصيص الحديث على البيت والولد لإبراز الدور الكبير الذي قد يترتب عن تفريط الزوجة أو تقصيرها في رعاية البيت والولد.
والتكامل بين مسؤولية الرجل والمرأة داخل الأسرة هو الذي يجعل هذه الأسرة نموذجا مصغرا للأمة المنشودة تقول الدكتورة هبة رؤوف عزت.
وتتعدد وتتنوع مسؤوليات الزوجين في الأسرة، إلا أن حصر هذه المسؤوليات يمكن رصده من خلال:
توفير الحاجيات المادية (مأكل ، ملبس، مسكن، تعليم، تطبيب،…) ومعنوية (عطف، حنان، …)
توفير الرعاية والحماية بعدل لكن أهم مسؤولية وأكبرها هي المسؤولية التربوية، وهي مسؤولية لا تسقط عن الأسرة بأي حال من الأحوال، والتفريط فيها هلاك للبيت وتدمير للأسرة. قال : «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه؛ كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها من جدعاء». (رواه البخاري)
ونقل عن عبد الملك بن مروان قوله: (داعِب ولدك سبعًا ، وأدِّبه سبعًا ، وعلِّمه سبعًا ، ثم اترك حبله على غاربه).
وهذه أعمال إن حُرِص على تدريب الولد عليها تجعله بعيدا عن كثير من التأثيرات السلبية.
والمتدخلون في العملية التربوية عبر التاريخ الإسلامي ثلاثة: الأسرة أولا، والمسجد ثانيا، والمجتمع المصغر (الحي أو القرية) ثالثا.
أما في الوقت الحاضر فالمعادلة تغيرت فقد تعدد المتدخلون: ( توسع المجتمع، المدرسة الحديثة، الإعلام، الشبكة العنكبوتية بمكوناتها التواصلية..) فزاد تأثيرهم السلبي على العملية التربوية.
وبخلاف الأسرة التي بقي حجم تدخلها ثابتا ومحدودا، بل قل مع خروج الزوجة للعمل، فإن باقي المتدخلين (المدرسة – المجتمع، الإعلام، شبكة العنكبوتية… )، تضخم حجم تأثيرهم بشكل أصبح معه من الصعب الحد من خطره أو دفعه.
أمام هذا الوضع، ومع ضرورة تحمل الأسرة مسؤوليتها التربوية، أصبح لزاما البحث عمن يساعد في التخفيف من الآثار السلبية للمتدخلين على تربية الأبناء ـ مع التأكيد على أن دور الأسرة دور أساسي في العملية.
فما هي الجهات أو المؤسسات أو الأفراد الذين يمكن أن يساعدوا في التخفيف من حدة التأثيرات السلبية على العملية التربوية؟
أ – دور القرآن:
دُور القرآن من بين المؤسسات التي يمكن أن تساعد في التخفيف من الآثار السلبية في التربية: من خلال المادة التي تقدمها للنشء: القرآن الكريم: قراءة وكتابة وحفظا وتدبرا وتخلقا بالاشتغال عليه لفترة زمنية تبعد الأبناء عن باقي المؤثرات السلبية.
كما أن تأثير القرآن على الفرد والجماعة غير خفي على المسلمين، وفي هذا الشأن يقول الدكتور الشاهد البوشيخي في كتيبه “القرآن روح الأمة:” وهذا الكتاب عبر عنه بالروح إشارة إلى هذه الوظيفة التي يقوم بها في الإنسان؛ فالإنسان قبل أن يسري ماء القرآن في عروقه وكيانه يكون ميتا بصريح القرآن أَوَ مَنْ كَانَ مَيِّتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النْاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا(الأنعام : 123). أما عندما يخالط هذا القرآن قلبه ويسري منه كما يسري الدم في مجموع الكيان فإنه يصير فعلا شيئا آخر من حيث طاقاته، من حيث تصوراته وأفكاره، من حيث قدراته، من حيث إمكاناته، من حيث منجزاته، لأنه بالقرآن يهتدي إلى ربه ويعرف مولاه سبحانه وتعالى فيتوكل عليه حق التوكل ويستمد منه كل شيء : فمن اسمه “القوي” يستمد القوة، ومن اسمه “العليم” يستمد العلم، ومن اسمه “الحكيم” يستمد الحكمة، ومن اسمه “الرحمــن” “الرحيم” يستمد الرحمة، وهكذا وهكذا… يفيض الله عز وجل عليه -بفضله ورحمته- من أنوار أسمائه سبحانه وتعالى، فيشيع في كيانه ما يشيع، ويصير طاقة غير عادية إذا قورنت بما كانت عليه قبل.”
ب – المربون المصلحون:
من الجهات الأخرى التي يمكن أن تساعد في التخفيف من الآثار السلبية لتأثير المتدخلين في التربية: المربون المصلحون، وهذه الفئة كان لها دور على مر التاريخ في جميع الأمم، كما كان لها دور في الأمة قديما وحديثا وخاصة في الصحوة التي عرفتها الأمة بعد نكبة الاستعمار، حيث استطاعت أن تعيد الأمة إلى كتابها وسنة نبيها، من خلال الدروس التي كانت تقام بالمساجد، فكانت الفئة التي حظيت بهذا الخير فئة الشباب.
ورغم ما تعاني هذه الفئة من انحصار في السنوات الأخيرة بسبب تضخم حجم الإعلام والشبكة العنكبوتية والانتشار الواسع في استعمالها، وبسبب الضربات التي تعرضت هذه الفئة من خلال الحملات التشهيرية ضدها، وبسبب تصرفات طائشة وغير سليمة وحكيمة لبعضهم، فمازال لها دور في تصحيح التصورات الخاطئة والتصرفات المنحرفة من خلال الدروس التي تلقيها بالمساجد أو في كثير من المنابر والقنوات الإعلامية لذلك فعلى الأسرة الحرص على توجيه أبنائها للاستفادة من هذه الفئة ما أمكن.
ج – الجمعيات التربوية والثقافية:
هذه المؤسسة لها دور في الوقاية والحماية من السموم التي يتعرض لها الأبناء، من خلال الذين يصاحبونهم لهم في فترات زمانية ومكانية محددتين، غير أن دور هذه المؤسسة لا يكتمل إلا بتوفر طاقم إداري يغلب على أفراده الصلاح، فالتربية على القيم الفاضلة والتشبع بها داخل هذه المؤسسة يتم بالمصاحبة بالخصوص والقدوة الحسنة.
وهكذا فحرص الأسرة على التحاق أبنائها بهذه الجمعيات المتوفرة على شرط صلاح الأطر معين على التربية.
د – مجالس المدارسة القرآنية:
يعرفها الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله تعالى بقوله هي: (… مدرسة شعبية لنشر ثقافة القرآن، وبناء أخلاق القرآن، ودعوةٌ لتداول القرآن في السلوك الفردي والاجتماعي، من خلال الإقبال العام الشعبي على تعلم القرآن، وتدارس القرآن، وفتح “صالونات القرآن” داخل الأسر، وبين الأصحاب).
ويضيف رحمه الله:” مجالسُ القرآن” منهج تربوي أسَّسَهُ محمدٌ رسول الله ، وانخرط فيه أصحابه عليهم رضوان الله، واستمروا به بعد موته ؛ مدرسةً تربويةً تُخَرِّجُ أفواجَ التابعين! ولم يزل بعد ذلك نموذجا مقصودا – عبر التاريخ – للعلماء العاملين، وللمجددين الربانيين!).
هذه بعجالة بعض الجهات التي يمكن أن تساعد الأسر في تحمل مسؤولياتها في رعاية الأبناء كما جاء في الحديث، مع حرصها الشديد على المتابعة والمراقبة لمدى حضورهم وانخراطهم في أنشطتها.
ذ. محمد بوزين