بلا مساحيق – في نقذ الذات.. وارتسامات التغيير


فكما أن النقد ليس قتلا وليس نفيا، فإن نقد الذات أيضا هو قراءة حية ومنطقية في الذات، حاضرها، ماضيها، تراثها وثقافتها، بل هو ممارسة لنوع من الخصوصية الفكرية الراقية والخارقة لأي نرجسية أو حب للذات.

نقد الذات؛ هذا المصطلح المسؤول والخلاق والمبتكر لمنحى فكري جديد لابد من الولوج إليه، والانخراط في ورشته كمساهمة فكرية أخرى نحاول من خلالها أن نعيد القراءة في تاريخنا، فكرنا وتراثنا وبعين المحب الرقيب حتى لا نزداد تراجعا وعجزا أكثر مما نحن عليه.

ولعلنا لا حاجة بنا للتأكيد هنا أن نقد الذات لا نقصد به تجريح فكرنا وتراثنا، ولا نقصد به أيضا ومن زاوية أخرى نقد ديننا، فالإسلام دين خاتم ورباني ووحي أزلي، صالح لكل زمان ومكان، وإنما المقصود إعادة قراءة التراث وجموع الاجتهادات بجدية أكثر وعلى نحو يتيح لنا فهم الواقع ومعالجته بلغة هذا العصر لا بفهوم العصور السابقة، كون الراهن يشهد ارهاصات ووقائع أحيانا مفاجئة على نحو تجعل تراثنا واجتهادنا الماضي يقف في أحايين كثيرة عاجزا عن إيجاد حلول، أو المساهمة في إنتاج معرفة أخرى مضافة تستنهض عقولنا الخاملة، وتحفز ثقافاتنا الكسولة التي أصبحت تضيف إلى عجزنا وتأخرنا وتراجعنا، عجزا وتأخرا وتراجعا.

إن المتأمل في تراث الماضي المسنود لاجتهادات السابقين نجدها قد كتبت انطلاقا من وقائع وأحداث ومستلزمات ذلك العصر وذلك الزمان، فلا عجب أن يقف بعض هذا المنتج اليوم عاجزا أمام متطلبات هذا العصر ومستجداته،فهذا الراهن الذي يختلف كل الاختلاف عن سابقيه باعتباره الان مجتمعا معلوماتيا وتكنولوجيا، تسبح فيه المعلومة سباحة أثيرية افتراضية، وتتموقع كنافدة لمد معرفي وتواصلي بلانهاية ودون حدود زمانية أو مكانية.

هذا المجتمع الذي نراه اليوم وبما يتميز به بحاجة لأن تنفتح ثقافته هي الأخرى لسببين:

- السبب الأول: حمايته من الضياع الثقافي والانسلاخ والتماهي في ثقافة الآخر وذلك بتنقيته مما علق به من شوائب التاريخ.

- السبب الثاني: تكوين ثقافة موازية منبعها الجذور والهوية والأنا المعرفي لضمان الاستمرارية وعدم التلاشي.

إن منطلقنا في هذه السيرورة هو الذات نفسها لكن بعد تعرية عيوبها والإقرار بها والخروج من دائرة النضال العاطفي، للنضال الفعلي والحقيقي الجاد والتمرس عليه واقتناص الثابت والمتحول كطرح نستجدي به الاستمرار والثبات والإقناع.

اليوم وفي زمن الحداثة والعولمة، وتكنولوجيا المعلومات يوضع تراثنا وفكرنا على المحك إزاء مشكلات عديدة،أولها إعادة فهم ديننا ومن جديد، وإذ انطلق من هذا المعنى الكبير وقد يكون غير مألوف، فهذا من باب تقويض أفكار أخرى استشرت لدينا ولدى المجتمعات الأخرى.

أسئلة كبيرة تنتظر أجوبة وأجوبة مقنعة في زمن الانفتاح وسلطته الأقوى، وفي زمن أصبح الإسلام عنوانا للإرهاب والوحشية والقتل والدمار، أسئلة تفتح الباب أمام أسئلة أخرى، وتحديات تواجه تحديات أخرى لتبني جدرانا من اللاتوازن لتقف عائقا أمام أي تغيير.

نحن في عصر نشعر فيه وكأننا فقدنا مفاتيح الحقيقة أمام مغاليق فرضتها السياسة المتوحشة، وسلطات الأقوياء، وأفخاخ الأعداء.

نشعر أن المثقف المعني بالتغيير مختنق ويائس وغير متفاعل أو حتى متفائل بوجود تغيير حقيقي، طوق كبير يلفنا، وحصار شامل يحيط بنا لا نستطيع له فكاكا.

والأسئلة الكبيرة الذي تستفزنا اليوم: لماذا فشل الإسلام الإنساني أن يبني حضارته، وجوده واستمراريته اليوم؟

لماذا نحن عاجزون على بناء حضارة إسلامية إنسانية على الرغم من وجود بضاعة ومخزون لا يضاهى؟

لماذا نهاجم الخصوم والأعداء ونجعل منهم فزاعة، بل وشماعة نعلق عليها خيباتنا وضعفنا المتنامي ونحن نمتلك كل الصيغ الحضارية البانية؟

لماذا ولماذا؟ أسئلة كثيرة قائمة وماثلة في الأذهان تولد النزاع والاختلاف في غياب نقد الذات وتجديد الرؤى مادام هذا الدين إنسانيا وعالميا، بمعنى أنه يستوعب الإنسان بكل مشكلاته وفي كل وقت وحين.

هل عجزنا عن بناء نموذج مجتمع يستطيع أن يوازن، ويجد الانسجام بين مبادئه وممارساته العملية؟

هل قوانا الروحية ليست بمستوى قوى من بنوا نموذجا تاريخيا ساميا بالمدينة وما بعدها؟

أعتقد جازمة أن الارتباط التاريخي بلحظة ولادة النموذج الإسلامي والتركيز عليه كنموذج فريد، أو محاكاته كما هو قد أخرنا في البحث في ذواتنا وبناء مجتمع يتوافق ومعطيات هذا الدين والواقع المشهود.

ثم إن التنصيص والتقيد بما كتبه الأولون فقط، تمخض عنه تذبذب في الرؤى والممارسات، كما أن الهوة التي بناها اللاوعي بين مستويات العقيدة والعبادات والمعاملات، ومستوى الخلط بين ما هو نص ثابت سواء من القرآن والسنة وبين ما هو مفتوح للإضافة والتغيير، والجدال الدائر بين النصيين وغيرهم قد كرس مسائل الاختلاف أكثر، وأخرنا أشواطا أبعد في مجال الاجتهاد وبناء خصوصيتنا العلمية والفقهية بما يتوافق وهذا العصر.

نحن بحاجة ملحة اليوم لتفحص تراكماتنا الفكرية (الفقهية منها خصوصا) للانخراط في صناعة حاضر جديد، لكن ليس وفق سبل الدفاع فقط، لأننا لابد من أن نتجاوز هذه المرحلة والتي سادت تاريخنا الفكري ردحا طويلا من الزمن.

نحن بحاجة اليوم وأكثر من أي وقت مضى لأن نتسم بشجاعة كبرى لتغيير علاقاتنا بديننا، فكثيرة هي جوانبه التي طمست بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهذا لكسرالجمود وفتح المجال أمام سبل التغيير عبر التشخيص النقديوصناعة المشهد الحقيقي للحضارة الإسلامية وفق منحى مغاير تماما.

دة. سكينة العابد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>