لآلئ وأصداف – الشعر في موكب السيرة العطرة(1)


الشعر ديوان العرب. وكان الشعر -كما قال عمر – علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه. ولأهمية الشعر سميت سورة من القرآن الكريم باسم: (الشعراء)، وفي الحديث الشريف نصوص كثيرة عن الشعر والشعراء، توجيها وتشجيعا وبيانا وتسديدا. ومن أشهرها قوله : (إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكما). وذكر ابن سلام الجمحي قرى الشعر العربية فجعلها خمسا، وذكر منها مكة والمدينة، ثم بين كيف أن الشعر في مكة قليل: (والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم نائرة، ولم يحاربوا)، وأما المدينة المنورة فكانت مركز ازدهار شعري كبير منذ الجاهلية. وإذا كانت الحرب، كما بين ابن سلام، سببا في ازدهار الشعر، فإنه كان من الطبيعي أن تكون المدينة أهم مركز شعري عند العرب، لتواصل الحروب فيها عقودا في الجاهلية، رفعها بعض المؤرخين إلى مئة وعشرين سنة، وذلك لما كان بين الأوس والخزرج من حروب من جهة، وما كان بينهم ويهود المدينة من جهة أخرى. تلك الحروب التي كاد يفني بعضهم فيها بعضا، وكان آخر حروبهم يوم بعاث الذي قالت فيه عائشة رضي الله عنها: (كان يوم بعاث يوما قدمه الله تعالى لرسوله )، حيث كاد أهل المدينة يفني بعضهم بعضا، فأنقذهم الله من الفناء بالإسلام، وببعثة الرسول ، وذلك ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (الأنفال: 63).

وقد ولدت تلك الحروب حركة شعرية واسعة، وقد شارك اليهود أنفسهم في تلك الحركة الشعرية بشكل كبير. ومعلوم أن كل ذلك الشعر إنما كان بالعربية، حيث اتخذت كل القبائل التي وفدت على المدينة في الجاهلية العربية لسانا. ومن شعراء يهود الربيع بن أبي الحقيق، وطائفة منهم من العرب تهودوا، ومن أشهرهم السموأل بن عادياء، الشاعر الذي يضرب به المثل في الوفاء.

ولئن قلّ الشعر في مكة المكرمة، فإنه لم يكن منعدما، وإنما يعتبر قليلا قياسا لما عرفته المدينة، وإلا فقد كان في مكة شعراء مشهورون. ومما ورد من شعر مكي في خروج تبع من اليمن يبغي غزو مكة، ما قالته سُبيعة بنت الأحبّ، توصي ابنها خالداً بتعظيم البيت الحرام، وتحذره من البغي والظلم:

أبُنَـيَّ لا تظلِـم بمكَّـة ….. لا الصغيـرَ ولا الكبيــرْ 

واحفـظ مَحـارمَهـا بُنَـيَّ …. ولا يغرّنْـك الغَـرورْ 

أبُنَـيَّ مـن يظلـم بمكَّـة …. يلـق أطْـرافَ الشُّرورْ 

أبُنَـيَّ يُضْـربْ وجهـهُ …. ويَلـُحْ بخدّيـه السَّـعيـرْ 

أبُنَـيَّ قـد جَرّبتهـا …. فوجدتُ ظالمهـا يبـور 

الله أمّـنهـا ومـَا …. بُنيـت بعَـرْصتهـا قُصورْ 

والله أمّن طيرَهــا …. والعُصم تأمن في ثَبيرْ 

ولـقد غزاهـا تُبَّــع …. فكسـا بَنيَّتهـا الحَبير 

وأذلّ ربــي مُلـكَـه …. فيهـا فأوفـى بالنُّـذورْ 

يمشـي إليهـا حافيـاً …. بفنـائهـا ألفـا بعيـرْ 

ويظلّ يُطعم أهلَهـا …. لحمَ المــَـــهارى والجَـزورْ 

يَسقيهمُ العسـلَ المـــُصفّى …. والرّحيض من الشعيرْ 

والفيل أُهلـك جيشـه …. يرمون فيهـا بالصخـورْ 

والملْك في أقصى البلا …. د وفي الأعاجم والخزير 

فاسمع إذا حُدّثـتَ وافهـم …. كيف عاقبـة الأمـورْ

 

وهذه الأبيات وغيرها تبين كيف يقوم الشعر بوظيفة تاريخية، بالإضافة إلى قيمته الجمالية، وهذا معنى قولهم: “الشعر ديوان العرب”. فهذه الأبيات تذكر بعض الأمور التي هي في غاية الأهمية، ومن ذلك إشارتها إلى أن لمكة حرمة، ومن يعتدي على محارمه فإنه يلقى جزاءه جزاء وبيلا، وأن ظالمها يبور، وهي تروي ذلك عن تجربة، حيث إن الله تعالى أمنها وأمن ما فيها من طير ومن عصْم، أي الوعول المعتصمة بالجبال، مثل ثبير، وهو جبل بمكة. وقولها:

الله أمّنهـــــا ومـــا …. بُـــنِـــيت بعرصتها قصور

إشارة إلى أن الله تعالى جعل مكة آمنة محرمة منذ كانت خلاءً ليس فيها من بناء.

ثم ذكرت أن تبّعا غزاها، يريد هدمها، فلما تبين له الحق، ذلّ لها، ومشى فيها حافيا، وأطعم أهلها المهاري والجزور، والمهاري والمهرية هي الإبل العربية الجيدة، وسقاهم العسل المصفى، وكسا الكعبة الحبير، وهي الثياب اليمانية النفيسة المزركشة، وتسمى المحبر أيضا عندهم، ويقال إن تبّعا هو أول من كسا الكعبة المشرفة. والخزير هم الخزر، قوم من العجم. وتذكر أيضا هلاك أبرهة وأصحاب الفيل.

لقد واكب الشعر سيرة الرسول  قبل البعثة وبعدها. ونذكر أن في بني هاشم شعراء فحولا. وكان عبد المطلب شاعرا، وفي بنيه شعراء وشواعر، ومنهم أبو طالب، عم رسول الله ، ولعبد الله بن عبد المطلب، والد الرسول ، شعر ورجز. وكانت عماته ، صفية، وبرة، وعاتكة، وأم حكيم البيضاء، وأميمة، وأروى، كلهن من الشواعر، وحفظت لنا كتب السير بعضا من أشعارهن. ولعبد المطلب شعر في غزو أبرهة البيت، يستغيث فيه بالله، ويدعو على أبرهة. ففي السيرة أنه لما وافى أبرهة مكة، وتبين ظلمه، قام عبد المطلب، فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله، ويستنصرونه على أبرهة وجيشه، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:

لا همّ إن العبـــــد يــمْــــــــــــــــــــنع

رحـــله فامنع حَـــــــــــــــلالكْ

لا يغلبـــــــــــــــنّ صليبـــــــــــــــهمْ

ومِحــــالهم عَـــــدْوا مِــــــــحالكْ

وقوله: (لاهمّ)، أي: (اللهمّ)، والعرب تقول ذلك، والحِــلالُ: القومُ الحُــلول في المكان، أي الذين يحلّونه. والحِلال كذلك: المركب من مراكب النساء. والحِلالُ أيضا: متاع البيت. وكل ذلك جائز في البيت.

والمِـــحال: الحيلة والمكر. قال تعالى: وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ، (الرعد: 13). وقوله: (لا يغلبن صليبهم)، إشارة إلى تفشي عقيدة الصليب عند أهل اليمن يومئذ.

وسنرجع إلى حديث عبد المطلب، وشعره وشعر ذريته.

يلتقطها أ.د. الحسن الأمراني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>