افتتاحية – القرآن الكريم مصدر العلوم وميزانها 1


أنزل الله تعالى القرآن الكريم على الرسول  ليكون دليلا للإنسان للنظر والعمل والاهتداء به في الظلماتذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِه(الأنعام: 88)، وليكون الموجهَ الأولَ والأساسَ للإنسان المسلم؛ لأن العمل بشرع الله تعالى والاهتداء بهديه هو السبيل الأقوم لإقامة العمران البشري الأسلمإِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ(الإسراء: 9)، لذا فلا يصح أن يكون للأمة المسلمة نظر في الحياة والكون من غير حقائق هذا القرآن وبصائره؛ ولا يصلح للأفراد والأمم والجماعات عملٌ من غير أن يكون قائما على ما في القرآن الكريم من التوجيهات والهدايات الموصلة للمقاصد ومن غير الاهتداء الصحيح الكامل الشامل بما أرشد إليه القرآن وأَقامه من البنيان والقواعد في التفكير والتعبير والتدبير.

والقرآن الكريم هو الناظم للتصورات، والحاكم على ما يصدر من الإنسان من التصرفات، وبه تصح وتصلح عندما تنحرف عن الفطرة، وتغفل العقول عما فيه من العظة والعبرة.

إنه الميزان الصحيح الذي به -لا بسواه- تصح الفهوم وتستقيم، ويرشد السلوك فترتقي الأمة في مدارج الفضائل والمكرمات، وهو أصل العلوم الإسلامية التي منه صدرت، وهو معيارها الذي به صحت وصلحت.

ولا يصح الدخول إلى عالم القرآن وعالم الأكوان والإنسان إلا بفقه القرآن، وفقه كلمات القرآن، وفقه الهدى الرباني الذي خص به الله تعالى الإنسان للكشف عن أسرار عالمي الأكوان والإنسان، وكشف حقائق الحياة الممتدة في الزمان بداية ونهاية.

والأمة المسلمة المكلفة بحمل هذا الدين -حملَ بيانٍ وعلمٍ وعملٍ وبلاغٍ- مكلفة عاجلا غير آجل بعدة أمور على رأسها:

أولا: إقامة علوم القرآن على موازين القرآن وقواعد العربية في البيان وَهَٰذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا(الأحقاف: 11). ولا يقام لهذا الدين بنيان من غير إقامة أركان اللسان.. فيا أيها المسلمون هلُمَّ إلى صيانة لغة القرآن التي هي مفتاح البيان للتلقي الصحيح والفهم السليم عن الخالق الديان!!

ثانيا: إقامة علوم الإنسان انطلاقا من مفاهيم القرآن؛ فالإنسان قارة مجهولة وتزداد جهالته بها كلما أعرض عما أرشد الله تعالى إليه من الحقائق الدقيقة والأسرار العميقة عن طبيعة الإنسان وحياته فطرة وفكرة، نفوسا وعقولا وأبدانا، أفرادا وجماعات وأمماألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. (الملك: 15)

ثالثا: تشييد علوم الأكوان على موازين القرآن، فمفتاح عالم الأكوان هي موازين القرآن، فلا كشف دقيق وحقيق لكتاب الله المنظور من غير هداه ودليله في الكتاب المسطور.

لذا فكل علم من العلوم الدائرة في فلك القرآن أو فلك الإنسان أو تسبر عالم الأكوان إلا وهي متوقفة على الاستمداد من الهدى المنهاجي للقرآن الكريم في ألفاظه قبل تراكيبه، وفي تراكيبه قبل نسقه، وفي مبانيه قبل معانيه، وفي مفرداته قبل كلياته.. وكل علم وظف اللفظ القرآني واهتدى بالهدى المنهاجي للقرآن الكريم واستصحب كلمات رب العالمين وما تكتنزه من أسرار وهدايات إلا وكان أنفع للإنسان وأصلح له في معاشه ومعاده.

وإن الأمة وهي تتجه اتجاها نحو الاستخلاف الحضاري لا يصح منها شيء قبل بناء ذاتها من خلال مقومات ذاتها، فلا حضارة لأمة من غير علوم مبنية على أصولها، وأصل علوم الأمة القرآن الكريم؛ هو أصلها الذي تبني عليه فروعها، وهو تصورها الذي يوجه تصرفها، وهو بوصلتها التي تحدد اتجاه سيرها، وهو المنهاج الموحد لفِكَرِها والحافظ لسلامة فِطَرِها.

ولقد طال اغتراب الأمة عن ذاتها، وران على القلوب والعقول دخان كثيف أفسد واقعها وحجبها عن الارتقاء إلى موقعها الذي هو موقع الشهادة على الناس، ولا شهادة للأمة على الناس إلا يوم تمتلك مفاتيح العلوم المودعة أسرارها في عبارات القرآن، ولا شهادة على الناس من غير البناء النسقي لقارَّات العلوم الثلاث: علوم القرآن وعلوم الإنسان وعلوم الأكوان، وفق رؤية القرآن الجامعة بين الأشباح والأرواح، ومنهاجه الناظم لكل ما تفرق من الأجزاء والأشلاء، ووفق نسقه اللاحم لما انفصل من الأعضاء، والواصل لما انقطع من صلة الرحم بين الكتاب المسطور والكون المنظور والتاريخ الإنساني المأثور..

فيا أيها المسلمون: ألا لا حضارة حقيقية بغير علوم… ولا علوم نافعة من غير علوم القرآن… ولا علم بالقرآن إلا يوم نحيي لسانه ونعليه مكانه ونقيم بنيانه..

فيا أمة القرآن.. ويا أهل القرآن وخاصَّتَه، ألا إن القرآن علم العلوم، ومفتاح أسرارها، ومبدأ سبر أغوارها، والسبيل الأقوم والأقرب للارتقاء في أطوارها، فبه -لا بغيره- تندفع عن البشرية ما جنته أيديها من أضرار، وبه وحده تنكشف عنها غمة الظلمات والإحن والآصار، وبه -لا بغيره- تسد الذرائع وتجلب الخيرات والمنافع، وبه -لا بغيره أيضا- يستقر العمران وتثمر الصنائع، وبه وحده -لا بغيره- تكون الطاعة لله تعالى والعبادة، وتكون للأمة الإمامة والريادة والشهادة:قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى(البقرة:120).

وفي سياق الاهتمام بالقرآن الكريم وبيان مركزيته في التأسيس لمسألة الوعي الحضاري، وقوة حضوره في البناء المعرفي والعلمي و تمتين علاقته بمختلف العلوم الشرعية والإنسانية والمادية أقيم بفاس أيام: 15-16-17رجب 1438هـ الموافق 13-14-15أبريل 2017م بالمركب الثقافي الحرية بفاس – المغرب المؤتمر العالمي الرابع للباحثين في القرآن الكريم وعلومه في موضوع: “المصطلح القرآني وعلاقته بمختلف العلوم” من تنظيم مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، بتعاونٍ مع الرابطة المحمدية للعلماء، وجامعةِ القرويين، والجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، والمجلسِ العلمي المحلي بفاس، ومركزِ تفسير للدراسات القرآنية بالرياض، وجمعيةِ الثقافة الإسلامية بتطوان.

وقد واكبت جريدة المحجة أعمال المؤتمر، واعتبارا لقيمة موضوعه وحاجة الأمة إلى تجديد وعيها بذاتها وتجديد صلتها بكتاب الله تعالى تدبرا وعملا وإعمالا فقد خصصت الجريدة صفحاتها للتعريف بهذا المؤتمر واقتطاف جوانب من كلمات الجلسة الافتتاحية وصورا عن المؤتمر وقراءة عامة في أعماله ومحاضراته وأهدافه.


اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “افتتاحية – القرآن الكريم مصدر العلوم وميزانها