إلى أن نلتقي – أزمتنا أزمة قيم


تعيش العديد من المجتمعات الحديثة أزمات متنوعة، حتى إن لفظ “أزمة” لا يكاد يخلو منه حديث أو خبر. حيث يتحدث الكثيرون عن الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وما ارتبط بذلك من قضايا وموضوعات، لكن نادرا ما نجد الحديث عن أزمات ترتبط بالقيم.

إن القيم في بعض دلالاتها -على الأقل- منظومة مبادئ خلقية تستند إليها مجموعة بشرية ما، وتُنَظَّم على أساسها الحياة الاجتماعية، ويتم تطبيقها من خلال أقوال هذه المجموعة وسلوكاتها وأفعالها، بقَبول ما هو فاضل، ورفض ما هو رذيل.
وإذا كانت كذلك فيمكن القول بأن هناك العديد من القيم التي يمكن أن تكون مشتركة بين بني آدم، سواء على المستوى الجماعي أو على المستوى الفردي. بل وقد تكون مشتركة حتى بين بني الإنسان وبين الحيوان، ورحم الله أحد أقاربي البسطاء الطيبين حينما كان يردد: إن الحق أبلج، حتى بالنسبة لغير الإنسان؛ ألا ترون القط، إن أعطيتموه قطعة لحم أكلها بجانبكم، وإن هو خطفها أكلها بعيدا عن أعين الناس.
إن قِيماً مثل الصدق والأمانة والتسامح والاستقامة والإخلاص في العمل والعدل والحرِّية والمساواة والإتقان والنَّظافة والتعاون والاتِّحاد وتطبيق القانون والإحسان إلى الجار، وما شابه ذلك، هي قيم لا يختلف اثنان -من العقلاء طبعا- في أهميتها ودورها في بناء الفرد والمجتمع.
وفي المقابل فإن قيماً مثل الكذب والخيانة والغش والظلم والاضطهاد والاستعباد والأنانية وخرق القانون والاعتداء على الآخر بالقول أو السلوك أو الفعل، وما شابه ذلك، هي قيم لا يختلف اثنان أيضا في دورها في هدم كيان المجتمعات ومقومات الأفراد.
ومعنى هذا أن القيم في أصلها سنن كونية، وقاسمٌ مشترَك بين الأفراد والجماعات، وعلى أساسها تقوم سنة الله في الكون من حيث النهضة والتمكين؛ لأن الذي يأخذ بمجامع هذه القيم يكون قد أخذ بزمام النهضة والسيادة وبناء الحضارة؛ لأن ما تبقى من عوامل النهضة تبَعٌ لهذه القيم ودائر حولها، وكما قال الشاعر:
وإنِّما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بَقِيَتْ
فَإنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخلاقُهُمْ ذَهَبُوا.
ومن الواضح أن القيم الخلقية الفردية، وقيم النهوض الحضاري على المستوى الاجتماعي، هي التي تحققت بمجيء الإسلام، وعلى أساسها قامت حضارته، وبنُورها انتشر الإسلام في أرجاء الأرض، وانتفع ببركتها كل العباد في سائر البلاد. ويكفيها تميزا أنها ارتبطت بالشعوب أكثر من ارتباطها بالحكام، ولذلك لما ضعف سلطان المسلمين في الأرض، بقيت تلك القيم حية في الشعوب الإسلامية، وأصبحت أكبر قاسم مشترك بين أبنائها في مشارق الأرض ومغاربها.
لكن مع مرور الزمن بدأت هذه القيم في الانهيار حتى أصبحت أزمتنا أزمة قيم بامتياز. ولعل أبرز مظهر لذلك ما نشهده جميعا من طغيان القيم المادية في التعامل، بل وحتى في العلاقات بين الأفراد وفيما بين الجماعات على حد سواء، حيث غدت المصلحة المادية الذاتية هي مدار الأمر؛ فما دامت هناك مصلحة خاصة، فإن هناك علاقة وهناك ود، فإذا ذهبت ذهب كل شيء.
ومع طغيان القيم المادية طغت القيم الفردية، فأصبحت المصلحة الذاتية مقدَّمةً على المصلحة الجماعية، بل إن فكرة التعاون بين الأفراد اضمحلت بشكل كبير، مع أن قيمة التعاون مبدأ إسلامي شرعي لقول الرسول : «مَنْ نَفَّسَ عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ”. وهي عند المغاربة قيمة اجتماعية أصيلة، وما فكرة “تويزا» إلا أحد مظاهر تغييب المصلحة الفردية لصالح المصلحة الجماعية؛ بمعنى أن المصلحة الجماعية في مجتمعاتنا، قد تضافر فيها الشرع والعرف لتكون قيمة ذات بعد كبير في بناء الفرد وإرساء أسس التنمية على قواعد صلبة، تخدم الفرد والمجتمع على حد سواء.
لكن تغليب المصلحة الفردية في زماننا هذا، والتنكر للمصلحة الجماعية، فتح أبواب الشر على مصراعيها، ففشا الظلم والاعتداء، وانتشرت السرقة والرشوة، وغاب الحياء والحشمة، وانعدم احترام الصغير للكبير، وظهر العنف بكل أشكاله، حتى أصبحت نعمة الأمن تكاد تكون مفقودة، وفضيلة التعاون غريبة، وتوجيه النصح للغير تدخلا في شؤونه الخاصة… إنها أزمة قيم بامتياز.

أ.د. عبد الرحيم الرحموني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>