مع سنة رسول الله – مقومات الأمن الروحي في الخطاب النبوي (1)


عن صهيب قال: قال رسول الله : «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرا له» (صحيح مسلم).

إن البحث عن الأمن الروحي أرَّق الكثيرين من المفكرين والباحثين منذ زمن بعيد، وصعوبة الاهتداء إليه تكمن أولا في اختيار جهة البحث، لذلك لم يظفر الذين بحثوا عن الأمن الروحي عند غير خالق الروح بشيء. فما هي الوسائل التي حددها النبي لتحقيق الأمن الروحي؟ وكيف يمكن الحفاظ عليه في زمن الخوف والاضطراب؟
أولا: استقامة العقيدة أساس تحقيق الأمن الروحي
إن تحقيق الأمن الروحي للإنسان يساوي في المعادلة الشرعية الربانية ميلاد خليفة الله في الكون؛ لأن الإنسان يوزن بروحه؛ أي باستقراره روحيا، فلا يمسه اضطراب ولا ينال منه خوف. فالمقصود بالأمن الروحي هنا إدراك النفس لحقيقة وجودها، وشعورها بالاطمئنان والرضا عن الذات لما تقوم به من عمل، مع البحث المستمر عن التطور من أجل إحداث بيئة توافقية مع باقي مكونات المجتمع؛ فالأمن الروحي للمسلم يتكون من ثلاث توازنات:
- التوازن الداخلي مع النفس الأمارة والنفس اللوامة؛
- التوازن العلوي مع خالق الكون؛
- التوازن الخارجي مع مكونات الوجود على اختلاف أنواعها.
هذه التوازنات الثلاثة بمجموعها تحقق للمسلم أمنا روحيا وتجعل منه فردا فاعلا، ومعطاء في بيئته، وملهما لغيره لسلوك طريق الخلاص، والانخراط في منظومة التعاون الاجتماعي.
ومن أجل تحقيق هذا المبتغي يلزم توفر العناصر التالية:
1 – تذوق حلاوة الإيمان بالله تعالى:
لا مبالغة إذا قلت إن المعني بالأمن الروحي هو الإنسان المسلم فقط، أما غيره فلا يمكن أن يحصل له ذلك بشكل تام وصحيح، لفقده لأهم مقوماته وهو تذوق طعم الإيمان بالله تعالى، وهذا مصدر تعجب الرسول في الحديث: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن». قال الصنعاني: مراده أعجب لشأنه وحاله وما قدره الله له. إن أمره كله خير أكده بكله لأنه ذو أجزاء باعتبار تفرق صفاته، وليس ذلك أي خيرته لأحد إلا للمؤمن(1).
لأن المؤمن مفروض فيه أن يكون قويا كما قال : «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير..» (صحيح مسلم). هذه القوة تستمد من إيمانه بالله تعالى، لهذا ضحك النبي من حالة المؤمن الذي يضعف ويصاب بالإحباط أمام نوائب الدهر، فقد جاء في مسند أحمد عن صهيب قال: “بينما رسول الله قاعد مع أصحابه إذ ضحك فقال: «ألا تسألوني مم أضحك؟» قالوا: يا رسول الله، ومم تضحك؟ قال: «عجبت لأمر المؤمن، إن أمره كله خير..» (مسند أحمد).
هذه الحالة التي أضحكت النبي تغيب عن الكثير من المسلمين الذين يعيشون قلقا واضطرابا وخوفا لا أساس له؛ لأنهم قادرون على تحويل كل شيء يصيبهم إلى صالحهم في الدنيا والآخرة، فهم دائما في تجارة مربحة مع الله سبحانه وتعالى.
إن السر في تفوق المؤمن وتحكمه في الأفراح والأقراح يعود بالأساس إلى كونه مؤمنا حقا، مصدقا بأن كل ما يلم به هو بأمر الله تعالى، فذاك هو سلاحه الذي يمكن أن يحقق به الأمن والسعادة؛ لأنه ذاق طعم الإيمان، وعلم دوره في كون الخالق. قال : «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا» (صحيح البخاري).
هذا التذوق لا يحصل لكل الناس بل ميز الله به فئة خاصة من المؤمنين، ومن علامته حب الله ورسوله، وكره الكفر وما يؤدي إليه. قال : «ثلاث من كُنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» (صحيح مسلم).
إن معظم الاضطرابات التي يعيشها الفرد تعود لضعف إيمانه؛ لذلك يمكن الجزم بأن كل مؤمن طبيب نفسه، يستطيع أن يعالج نفسه بنفسه، ويحقق لذاته توازنا في الحياة ينعم من خلاله بالسعادة والهناء، ويتذوق بفضله لذة الأمن والأمان، فلا ينام وهو قلق على غد، أو خائف من أحد، يكفيه أن يوطن نفسه على تقوية إيمانه بربه تعالى، حتى يظل قويا أمام كل المصائب كي لا تجره إلى السخط وعدم الرضا على قضاء الله وقدره، وقويا أمام كل الإغراءات فلا تسحبه إلى الغرور والعجب والكبر، فالمسلم يعيش الوسط، فلا يكون عبدا طائعا لهواه عندما يصيبه الخير فيكفر بنعم الله وينفقها فيما حرم، ولا يكون ضعيفا أمام المصائب فيتحول إلى فاشل يعيش باكيا على ما فات، ويفرط فيما هو آت.
2 – تفويض الأمر كله لله:
لا يمكن التدخل في قضاء الله وقدره، قال تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين (التكوير: 29). قال ابن عاشور: “ذلك لأنه رب العالمين فهو الخالق فيهم دواعي المشيئة وأسباب حصولها المتسلسلة، وهو الذي أرشدهم للاستقامة على الحق..”(2). فالمسلم المفوض يسعى للاستقامة التي يرشده الله إليها، ولا يستسلم للخوف من المجهول، بل شعار المؤمن المفوض أن يثق في الله تعالى ويتوكل عليه، ويعتقد جازما أن ما اختاره الله له هو الخير عينه، وسيجني ثماره لا محالة عاجلا أم أجلا مصداقا لقوله تعالى: ومن يتوكَّل على الله فَهو حسبه إن الله بالِغ أَمره (الطلاق: 3).
إن عدم تفويض الأمور إلى الله، يجر ضعيف الإيمان إلى معاناة نفسية كثيرة قد تلقي به في براثن الشرك بالله، فيلجأ إلى أهل السحر والشعوذة وغيرهما من المحتالين على الناس؛ لأنه يظن أنه بسلوكه ذلك الطريق يمكنه أن يعرف ما يخبئه له المستقبل، أو يقدر على تغيير شيء من أمر الله، وهو اعتقاد لا يزيد الإنسان إلا اضطرابا وقلقا، ويدخله في دوامة الخوف والانتظار، غالبا ما تكون نتيجته الآلام والقنوط واليأس؛ لأنه أخطا الطريق فلم يفوض إلى الخالق الرحيم بعباده، وفوض إلى مخلوق قاس ضعيف لا يملك من أمره شيئا. وصدق رسول الله حيث قال: «من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» (سنن الترمذي).
ولكوننا نعرض حاجاتنا على الناس دون الله تعالى؛ فإن واقعنا يعج بجرائم النصب، والغش، والاحتيال، وأكل أموال الناس بغير حق، فجنود الشيطان يسلبون الإنسان أمواله وراحته، وربما يشردون أسرته وأطفاله لأسباب لو استعان فيها بالله وتوكل عليه لكفاه شرها، ورزقه خيرا منها في الدنيا والآخرة، ولمنحه الصبر على ما أصابه، وصرفه إلى ما هو أفضل له؛ لأنه المالك لأمر عباده، والمتحكم في كل كبيرة وصغيرة قال : «.. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» (سنن الترمذي).
بهذا التفويض المطلق لله يعيش المسلم أمنا روحيا يستطيع بواسطته أن يحول كل ما يصيبه من حزن أو فرح لصالحه، يجني به الحسنات، وينال به مقامات التكريم والرضا عند الله في جنة الفردوس.
3 – الضرب في الأرض:
مهما رقى المسلم في درجات الإيمان والتفويض لله تعالى، لا يمكنه أن يصل في ذلك إلى مقام النبي ﷺ وصحابته الكرام، ومع ذلك لم يثبت عنهم قط أنهم تركوا العمل أو استسلموا لإكراه الواقع، ولنا فيهم القدوة الحسنة، فقد واجهوا كل الصعاب بإيمانهم القوي، وعزيمتهم الثابتة، وبوسائل بسيطة تغلبوا على عداوة الشيطان وشهوات النفس، وحاربوا الجهل والشرك، فأتقنوا العمل واجتهدوا في تطويره، لاعتقادهم الجازم أن الله يراقبهم ويراهم، فلا يغشون في أعمالهم، ولا يخدعون في تجارتهم، ولا يقصرون فيما كلفوا به من مهام لارتباطهم في كل ما يقومون به بخالقهم، فلا يحتاجون إلى مراقبة أو تفتيش؛ لأن قصدهم قوله تعالى: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون (التوبة: 105).
فها نحن نرى كيف انتصروا لله ورسوله بالعمل الجاد الموافق للشرع، ففتح الله عليهم ونصرهم نصرا مؤزرا، وأبدلهم في ظرف وجيز خيرا مما كانوا فيه، فعرفوا في بيئيتهم بعد ما كانوا مجهولين، وحولوا كل الهزائم إلى نصر بعد نصر، لينشئوا قوة تهابها الفرس والروم، ولم يأت ذلك من فراغ، بل بعملهم الصالح وإخلاصهم الصادق، فجعلوا أمرهم كله خير مصداقا لقوله : «إن أمره كله خي». فالمراد بالخير هنا يشمل الجانب المادي الذي يتمثل في سداد الرأي، والنجاح في العمل، ويشمل الجانب الروحي المتمثل في الشعور بالأمن والاطمئنان والرضي على الذات، فالمسلم بذلك كله يكون قد حاز الدنيا كلها كما قال : «من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا» (سنن الترمذي).

ذ. محمد البخاري 
——————
1 ـــ التَّنويرُ شَرْحُ الجَامِع الصَّغِيرِ، محمد الصنعاني، ط1، 1432هـ، دار السلام، الرياض، ج7، ص: 204.
2 – التحرير والتنوير، ابن عاشور، الدار التونسية، ج 30، ص: 167.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>