باريس ليست (مدن الملح)، ولا هي (شرق المتوسط). هي تفتح ذراعيها لتقول لك: ما زلت عاصمة الأنوار. لا تقبل منك الغفوة والغفلة والتراخي، فمعارض الثقافة والعلم، وملتقيات الفكر والأدب، لا تكاد تنتهي. لذلك فأنت معرض في أي لحظة للتعرف، ليس على فكر جديد وفن جديد فقط، بل على من ينتجون الفكر والفن، ممن سمعت بهم من قبل وممن لم تسمع. خلال العامين اللذين قضيتهما في باريس، تعرفت على عدد من الأعلام، من أهل المشرق ومن أهل الغرب على السواء. فيها تعرفت على أندريه ميكل الذي كان يحاضر في الكوليج دو فرانس، وهو من أهم مستعربي العصر الحديث. هو لا يحب أن يعرف بأنه مستشرق. عندما قلت له: (باعتبارك مستشرقا..)، لم يتركني أكمل، بل انتفض انتفاضة العصفور بلله القطر، وقال: “لست مستشرقا”. في باريس جلست إلى العالم الموسوعي الرباني محمد حميد الله، هذا العالم الذي عاش مجاهدا وسط الدراسات الاستشراقية، مسلحا بالعربية والأوردية والفرنسية والإنجليزية والألمانية..الخ.. وممن لقيتهم واستمعت إليهم: فانسان مونتي (المنصور بالله الشافعي)، ورجاء غارودي، والشيخ محمد الغزالي، الذي لقيته أول مرة في مسجد باريس، قبل أن أجلس إليه في القاهرة، وغيرهم كثير. في باريس شهدت احتفال الفرنسيين بالذكرى المئوية لوفاة فكتور هيجو، وعرفت كيف يقدر هؤلاء شاعرهم الكبير. صوره في كل مكان، حتى في المترو، ومؤلفاته في كل مكان. كما شهدت وفاة شاعرهم لوي أراغون. كلا الشاعرين كان مفتوانا بالشرق، وبالشرق العربي على الخصوص، ولذلك كان ديوان الأول: “الشرقيات”، يعكس إعجاب شاعر فرنسا بالثقافة العربية والإسلامية، واطلاعه الواسع عليها، رغم انتقاده العنيف لبعض صورها، وديوان الثاني: “مجنون إلسا”.، هذا الديوان الذي يستوحي أراغون فيه بعمق تاريخ المجنون، قيس بن الملح النجدي، من جهة، ومأساة غرناطة، وأميرها أبي عبد الله من جهة أخرى.
في يوم من أيام 1985، نزلت كعادتي إلى المكتبة الشرقية في قلب باريس. هنالك كنت أجد من الكتب والدوريات المتعلقة باهتمامي ما لم أجده في مكان آخر، إذ كنت أعنى بكل ما هو شرقي، وبكل ما يتصل بحضارتنا العربية الإسلامية مما كتبه الغرب عنا. كنت أجد من الموظفين من المساعدة والخدمات شيئا كثيرا. مرة سألتني الموظفة عن اهتمامي العلمي، فلما أخبرتها شمرت عن ساعدها ثم جلبت إلي من الكتب والمعاجم والدوريات شيئا ليس باليسير، وهي تقول: لعل هذا ينفعك.. وهذا.. وهذا أيضا.. حملت ممتنا لها ما وجدته شديد الصلة بما يعنيني، ودخلت لأتخذ لنفسي مكانا في قاعة القراءة. وهناك لقيت آسيا جبار، الكاتبة الجزائرية الشهيرة، وتعرفت عليها، وكان الذي عقد الصلة بيننا هو الشاعر المغربي نورد الدين الأنصاري، أحد فرسان جريدة الاختيار أواسط سبعينيات القرن العشرين.
آسيا جبار روائية من الجيل الذي استوى عوده زمن الاستعمار الفرنسي للجزائر، واتخذ الفرنسية وسيلة للتعبير. وكما قلت مرة، إن أدباءنا الذين يكتبون بالفرنسية ليسوا سواء. فمنهم من كان يردد الأطروحة الاستعمارية ويبشر بفكرها الذي كان يزعم أنه يريد (تمدين البدو civiliser les nomades)، ومنهم من اعتبر اللغة الفرنسية (غنيمة) يحارب بها المستعمر.
كانت آسيا جبار امتدادا لمدرسة مالك حداد، تلك المدرسة التي تقوم على الاعتزاز بالهوية الثقافية العربية والإسلامية، ولا تعتبر الفرنسية أكثر من وسيلة للتعبير، يطوعها المستعمر (بفتح الميم) لخدمة مبادئه وقيمه. وهكذا كان يعتبرها فرانز فانون، ذو الأصل المارتيني، صاحب كتاب: (المعذبون في الأرض).
لم يكن مظهر آسيا، رحمها الله، يوحي بأنها من صنف النساء اللاتي تشغلهن مظاهر الفتنة وأمور الزينة عن الجوهر. كانت -عندما لقيتها- تلبس لباسا لا يشف ولا يصف ولا يكشف، إلا ما كان من شعرها المبعثر قليلا. فقد كانت تلبس لباسا غربيا، إلا أنه لا يهدف إلى إبراز شيء من الأنثوية، إلا ما ظهر منها. فقد كانت تلبس (بنطالا بلون كاكي)، ولكنه فضفاض، كما كان قميصها لا يبرز شيئا من مفاتن الأنوثة. إنها معنية بالفكر، وبالدفاع عن قضيتها، ولا يملك من يتعرف عليها إلا أن يجلها ويحترمها ويُكبر مشاغلها.
إذا كانت مرغريتيورسنار أول امرأة تنال عضوية الأكاديمية الفرنسية، فإن آسيا جبار هي أول امرأة عربية تنال هذه العضوية، مما يدل على باعها الطويل في لغة موليير، وقد ارتقت إلى أن رشحت لجائزة نوبل، إلا أنها ظلت وفية لقيمها الجزائرية، ومن وراء ذلك قيمها العربية والإسلامية.
وآسيا جبار هو الاسم المستعار الذي اختارته فاطمة الزهراء إيمالاين، وهو تقليد اتبعه بعض من يكتبون بالفرنسية، ومنهم الكاتب الجزائري المشهور محمد خلوطي الذي اختار اسم (كاتب ياسين)، وهو الاسم الذي اشتهر به، وقد دل اختياره لهذا الاسم على أن به بقية من الارتباط بالأصل العربي، رغم أنه أمازيغي، مثل آسيا، ورغم توجهاته الفكرية والأدبية المعروفة، والمعادية لما هو عربي وإسلامي، وهو في الوقت متعلق بجزائريته، كما تنبئ عنها مسرحياته، وكأن للجزائر هوية مناهضة للإسلام والعربية. ولكاتب ياسين عدد من الأعمال الروائية والمسرحية، ومن أهمها: (نجمة)، و(محمد، خذ حقيبتك)، و(الجثة المطوقة).
ونرجع إلى آسيا جبار، فقد هاجرت من الجزائر إلى فرنسا عام 1980 حيث بدأت بكتابة رباعيتها الروائية المعروفة، التي تجلى فيها فنها الروائي وفرضها كصوت من أبرز الكتاب الفرنكوفونيين. واختارت شخصيات رواياتها تلك من العالم النسائي فمزجت بين الذاكرة والتاريخ. من رواية «نساء الجزائر» إلى رواية «ظل السلطانة» ثم «الحب والفنتازيا» و«بعيداً عن المدينة».
في هذه الرواية الأخيرة: “بعيدا عن المدينة” تسعى الكاتبة إلى تجسيد الصراع بين الواقع والمثال، والمراد بالمدينة في هذا العنوان، ليس أي مدينة، بل مدينة الرسول ، وذلك واضح من العنوان الأصلي: Loin de Medine وقد صدرت هذه الرواية عام 1991م.
تعتمد آسيا جبار على التاريخ العربي والإسلامي الذي يعود إلى عصر الرسالة، وتستثمر عددا من الأحداث المتعلقة بالمرأة، كما رواها الطبري وغيره من المؤرخين، بل وتستعين أيضا بكتب الحديث، مثل صحيح البخاري في تجلية الأحداث. وهي من خلال قراءة الأحداث من جهة، ومحاورة المؤرخين من جهة أخرى، يظل غرضها هو دفاعها عن المرأة، ونقدها للممارسات المنحرفة التي ضيعت حقوق المرأة في المجتمع الإسلامي، وكأنها تميز بين الواقع التاريخي وبين الجوهر الذي يمثله القرآن الكريم والسيرة النبوية المطهرة.
تقول الكاتبة شهرة بلغول: (سعت آسيا جبار إلى خلق حوار مع المؤرخين الأوائل للعصر الإسلامي الأوّل، حيث رأت أن حضور النساء في نصوصهم جاء بشكل عابر، مبهم، وفي كثير من الأحيان يُصوِّر المرأة في شكل ضحية، يصرف عنها كل فاعلية أو تأثير مباشر على مسار الأحداث جاعلاً إياها مجرد ديكور أو خلفية يتأثث بها مسرح الحياة آنذاك، وبالتالي فإنّ جملة من الأنساق قد أسهمت في تشكيل هذا الخطاب التاريخي الذي اكتسب الشرعية المطلقة عبر تقادم الزمن. ومن أبرز هذه الأنساق نجد النسق الذكوري الذي شكّل وبلا منازع الخلفية التي سيطرت على الذهنية الفكرية للأمة الإسلامية طيلة عصور من الزمن. وعليه فإنّ آسيا جبّار قد حاولت قراءة تلك النصوص في دوائرها المعتمة للكشف عن الوجه الآخر لذلك الماضي، لا باعتباره حقيقة مطلقة وإنّما بوصفه مجرد احتمال قائم بين احتمالات أخرى ممكنة الحدوث).
يلتقطها أ.د. الحسن الأمراني