عن ابن عمر عن النبي قال: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته». (صحيح البخاري).
يبين الحديث النبوي الشريف تصور النبي لمفهوم المسئولية والمحاسبة، التي تلهج بها كل الألسن في مختلف المناسبات؛ الثقافية، والسياسية، والإعلامية، دون أن يجد هذا اللغط صداه في واقعنا اليومي، إذ معظم الناس متدمرون من سوء تسيير مرافقهم العامة، مما يدفعنا إلى البحث عن سبب توجع المواطن المسلم من مؤسساته العمومية، والكشف عن البدائل الشرعية التي فعلت ربط المسئولية بالمحاسبة، مما يجعل الاعتماد عليها حلا عمليا لمعضلات الفساد الإداري في المجتمعات الإسلامية.
أولا: المسؤولية والمحاسبة تعاقد بين الخلق والخالق
استعمل العرب لفظة رعى للدلالة على الحفظ، والمراقبة، والتدبير، والحماية(1). وسمي الوالي بالراعي؛ لأنه يجب أن يقوم بمهمة الحفظ والمراقبة، ولا يتأتى له ذلك إلا بتدبير حكيم، وحماية فعالة، قال ابن حجر: “والراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما اؤتمن على حفظه؛ فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه”(2).
فالرعاية تفيد المسئولية بمعناها العام المتداول، وهي تكليف والتزام يتحمله الجميع كل حسب قدراته، مصداقا لقوله : «كلكم راع» دخل في هذا العموم، المنفرد الذي لا زوج له ولا خادم ولا ولد؛ فإنه يصدق عليه أنه راع على جوارحه… فعلا ونطقا واعتقادا، فجوارحه وقواه وحواسه رعيته(3). ثم إن قوله : «وكلكم مسئول عن رعيته» يدل على معنى المحاسبة، ويؤيد هذا قوله تعالى: فَوَرَبِّك لنسأَلَنّهم أجمعين عمَّا كانوا يعملون(الحجر: 93). قال القرطبي: “والآية بعمومها تدل على سؤال الجميع ومحاسبتهم”(4). وقوله تعالى: فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين(الأعراف: 6). فالجميع محاسب، لقوله : «إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ أم ضيع» (صحيح ابن حبان).
وبناء على ما سبق؛ فإن المسئولية والمحاسبة في الإسلام تعاقد بين الخلق والخالق؛ لأنهما تكليف اختياري ينبثق عن الخلافة العامة في الأرض، قال تعالى: يا داود إنا جعلناك خليفة في الاَرض فاحكم بين الناس بالحق(ص: 26). فالحكم بالحق تعاقد مستمر مع الخالق، بيَّنه بقوله: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته». وهو يستمد وجوده من أصل خلقة الإنسان، لقوله تعالى: وإذا اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى(الأعراف: 172). فالجواب بالعبودية كان فطريا، والعبودية هي الضامن لحفظ بنود هذا التعاقد أثناء التطبيق. أما ما يسمى “بالضمير المهني” وغيره من المصطلحات الخادعة التي تخضع لمزاج صاحب الضمير، ونزواته، وحالاته النفسية من غضب وإرهاق، هو سبب بلاء الناس في مرافقهم العمومية؛ لأن العبادة هي أساس الخلافة في الأرض، وهي خاضعة للمحاسبة المطلقة في قوله تعالى: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد(ق: 18). لذلك كان التعاقد العام توحيد الله تعالى وعبادته، فكلما كان هذا مرعيا، كانت العقود الأخرى المتفرعة عنه محفوظة، وهذا معنى قوله تعالى: وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون(الذريات: 56). فالراعي ليس مطلوبا لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك، فينبغي أن لا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه(5). وما دام هو على هذا المنهج؛ فإن دعوة النبي ستشمله في قوله: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً، فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به» (صحيح مسلم).
ثانيا: مرتكزات ربط المسئولية بالمحاسبة.
هذه المرتكزات تستنبط من قوله : «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته». ومن النصوص الشرعية التي لها صلة بهذا الموضوع؛ وهي بالرغم من تعددها وتنوعها يمكن حصرها في التأهيل التربوي، والتأهيل المعرفي.
التأهيل التربوي للفرد الراعي:
كل إنسان راع باعتبار، ومرعي باعتبار، فلا يخلو مكلف من وظيفة ملقاة على عاتقه؛ فكلما عظم شأنها ازدادت مسئوليتها؛ ومن أجل إتقان هذه الوظيفة، واتخاذ القرار الصالح، والتسيير الرشيد لشؤونها، يجب أن يؤهل الفرد الراعي تربويا بشكل مستمر؛ في الأسرة، والمدرسة، والمسجد، والإعلام، والمجتمع، حتى يمتلك الصفات اللازمة للقيادة والتسيير، وعلى رأسها:
- القوة والأمانة: فالقوة البدنية، والفكرية، والسلوكية، تساعد الفرد على أداء ما كلف به على أحسن وجه، والأمانة تربطه بمراقبة الله تعالى في حفظ مصالح المسلمين من الضياع؛ فيحميها من جشعه وجشع من يعمل معه، قال تعالى: إن خير من استاجرت القوي الامين(القصص: 26). فلا يمكن لمن يتولى وظائف الدولة العامة أو الخاصة، أن يكون ضعيفا في مواقفه وقراراته، أو خائنا مفرطا في وظيفته؛ لأن أهل الفساد سيطمعون في ضعفه وخيانته ويعيثون فسادا في مصالح المسلمين؛ لهذا لا يكفي أن يكون الراعي أمينا لا يختلس مال المسلمين، بل يجب أن يكون قويا أيضا ليحميه من اللصوص، وإن لم يفعل فهو مشارك، قال : «إذا رأيت أمتي تهاب، فلا تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم» (المستدرك للحاكم). أي تركهم الله. فصفة الأمانة تستلزم حفظ المال العام، وتنميته، وصرفه في مصالح المسلمين، وصفة القوة تستلزم الدفاع عنه، وانتزاعه من يد الغاصبين؛ لذلك منع النبي بعض الصحابة من تولي وظائف الدولة لأنهم غير أقوياء، رغم أنهم أمناء، فعن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ …قال: «يا أبا ذر، إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها» (صحيح مسلم).
فالمنصب له تبعات بدنية وفكرية هائلة؛ لتحقيق النجاعة في طرق الحكم والتسيير، وتطوير وتنمية المرافق العامة للمسلمين، لذلك استحق سيدنا يوسف أن يكون مسئولا عن الشؤون المالية والاقتصادية لمصر، قال تعالى: فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم(يوسف: 54-55) فبهاتين الصفتين سيحفظ ثروات مصر وينميها، ويدافع عنها لمنع المفسدين من سرقتها.
- العدل والمساواة: فبالعدل يضمن الراعي تمتع المواطنين بحقوقهم، قال تعالى: وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل(النساء: 58). فالعدل يمنع الظلم لخدمة أهداف سياسية، أو قبلية، أو غيرها. قال تعالى: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى(المائدة: 8). وبالعدل استحق الراعي أن يكون أحب الخلق إلى الله تعالى قال : «إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا إمام عادل» (سنن الترمذي). فمحبة الله شرف عظيم، وهي الوسام الذي يجب أن يسعى إليه رعاة هذه الأمة؛ لأنها دائمة ومنجية، فلا يكون مطمحهم تحقيق مصالحم الخاصة التي تدفعهم للنهب والسرقة، قال : «إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة..» (صحيح البخاري).
وإذا كان العدل إعطاء كل ذي حق حقه، فالمساواة تستلزم عدم التمييز بين المواطنين في الحكم بسبب دينهم، أو جنسهم، أو لونهم، أو عرقهم، أو انتمائهم، فهدف الراعي تطبيق حكم الله على الجميع، وبذلك نطهر مرافقنا العمومية من الرشوة، والزبونية، والمحسوبية، وغيرها من مظاهر الفساد التي انتشرت في جسم إدارتنا، لعدم تربية أولادنا على العدل والمساواة؛ لذلك أنكر النبي على من أراد أن يشفع في حدود الله، لكون المحكوم عليه من علية القوم، وقال : «إنما أهلك الذين من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (صحيح مسلم). وهذا ما يهلك الأمة الإسلامية الآن مع كل الأسف، وقد حكم على الدول التي لا تراعي ذلك بالفشل فقال: «.. وإن الله لا يترحم على أمة لا يأخذ الضعيف منهم حقه من القوي..» (المستدرك للحاكم).
وتطبيقا لهذا المبدأ قام عمر بإعطاء أوامره بحفظ حقوق الضعفاء والفقراء من المسلمين وغيرهم؛ فقد مر بباب قوم وعليه سائل يسأل -شيخ كبير ضرير البصر- فقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. قال: فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه؛ فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شيبته ثم نخذله عند الهرم… ووضع عنه الجزية وعن ضربائه(6).
فإذا كان عمر قد مضى زمنه كما يروج البعض؛ فإن العدل والمساواة في الحكم لم يمض زمنهما، بل إن التحجج بهذه المقولة هو محاولة بائسة للتنصل من المسئولية مع الخلق، وهي لن تنجي أي مفرط أو منتهك لحقوق الله، وحقوق العباد قال : «ما من وال يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم، إلا حرم الله عليه الجنة» (متفق عليه).
ذ. محمد البخاري
———–
1 – مقاييس اللغة ابن فارس كتاب الراء، باب الراء والعين وما يثلثهما، مادة “رعى”. القاموس المحيط، فيروز ابادي، باب الواو والياء، فصل الراء. تاج العروس، الزبيدي، مادة ” رعى”.
2 – فتح الباري، ابن حجر، دار المعرفة، 13/112.
3 – المصدر نفسه، 13/ 113.
4 – الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار الكتب المصرية. 10 / 60.
5 – فتح الباري، 13/ 113.
6 – الخراج، لأبي يوسف، 139.
أريد التواصل بصاحب هذا المقال بارك الله فيكم