خادم التراث الإسلامي شعيب الأرنؤوط : سيرة عالم محقق مدقق


فقدت الأمة الإسلامية ومكتباتها العلمية خلال شهر محرم 1438 أحد كبار خدام التراث الإسلامي في مجال التحقيق إنه الشيخ شعيب الأرنؤوط  رحمه الله تعالى، بعد حياة زاخرة بطلب العلم ومصاحبة فحول العلماء في كثير من التخصصات العلمية، والعيش بين أمهات الكتب التراثية تحقيقا وتدقيقا، وتوثيقا. فمن هو الشيخ شعيب الأرنؤوط؟ وما هي آثاره العلمية في مجال  التحقيق؟

اسمه ونسبه ونشأته:

هو شعيب بن محرم الأرنؤوط، ينحدر نسبه من أسرة ألبانيَّة الأصل، هاجرت إلى دمشق سنة 1926م واستقرَّت بها، لسبب يعود رُبَّما إلى اعتقاد والده فضل الشَّام وسُكناها، فقد كان والده محبّاً للعلماء حريصاً على مصاحبتهم.

وُلد الشيخ شعيب الأرنؤوط في مدينة دمشق سنة 1928م، ونشأ في ظلِّ والدَيه نشأةً دينية خالصة، تعلَّم خلالها مبادئَ الإسلام، وحفظ جزءًا كبيرا من القرآن الكريم، ولعلَّ الرَّغبة الصَّادقة في الفهم الدَّقيق لمعاني القرآن الكريم، وإدراك أسراره، هي من أقوى الأسباب التي دفعته إلى دراسة اللُّغة العربيَّة في سنٍّ مبكِّرة، حيث مكث ما يربو على عشر سَنوات يختلف إلى مساجد دمشق ومدارسها القديمة، قاصداً حَلَقات اللُّغة في علومها المختلفة، من نحو وصرف وأدب وبلاغة وما إلى ذلك.

طلبه للعلم:

تتَلْمَذ الشيخُ في علوم العربيَّة على كبار أساتذتها وعلمائها في دمشق آنذاك، منهم الشيخ صالح الفرفور، والشيخ عارف الدُّوَجي -اللذان كانا من تلاميذ علامة الشَّام في عصره الشيخ بدر الدين الحسَني- حيث قرأ عليهم أشهر مصنَّفات اللُّغة والبلاغة العربيَّة؛ منها: شرح ابن عقيل، و(كافية) ابن الحاجب، و(المفصَّل) للزمخشري، و(شذور الذهب) لابن هشام، و(أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز) للجُرجاني.

وممن قرأ عليه أيضاً: الشيخ سليمان الغاوجي الألباني، الذي كان يشرح لطلاَّبه كتاب (العوامل) للبَركوي، و(الإظهار) للأطَهْلي، وغيرهما.

وبعد هذه الرِّحلة الطَّويلة الشاقَّة مع العربيَّة، اتجَّه الشيخ لدراسة الفقه الإسلامي، فلازم أكثر من شيخ يقرأ عليه كتب الفقه، ولا سيَّما تلك المصنَّفة في الفقه الحنفي، مثل: (مراقي الفلاح) للشرنبلالي، و(الاختيار) للمَوْصلي، و(الكتاب) للقدوري، وحاشية ابن عابدين.

وقد استغرقت دراسته للفقه سبعَ سنوات أخرى، تخللتها دراسة أصول الفقه، وتفسير القرآن، ومصطلح الحديث، وكتب الأخلاق، وكان في تلك المرحلة قد جاوز الثلاثين.

اشتغاله بالتحقيق:

لمس الشيخ – في أثناء دراسته للفقه – القصورَ الواضح عند شيوخه ومن عاصرهم في معرفة صحيح الحديث من سقيمه، وذلك ما جعلهسيرة عالم محقق مدقق يدرك أهميَّة التخصص في علم السُّنة ليتسنَّى تحقيق كتبها، ومن ثمَّ تمييز صحيحها من ضعيفها، فعقد العزم على الاضطلاع بهذه المهمَّة الصَّعبة، فترك لأجلها مهنةَ تدريس اللُّغة العربيَّة التي كان يزاولها منذ سنة 1955م، وفرَّغ نفسه للاشتغال بتحقيق التُّراث العربي الإسلامي.

وكانت بدايته الأولى في (المكتب الإسلامي) بدمشق سنة 1958م، حيث ترَأَّسَ فيه قسم التَّحقيق والتَّصحيح مدَّة عشرين عاماً، حقَّق فيها أو أشرف على تحقيق ما يزيد على سبعين مجلداً من أمَّهات كتب التُّراث في شتَّى العلوم.

ثم بدا له أن ينتقل إلى العمل مع (مؤسَّسة الرِّسالة) في مكتبها بعَمَّان سنة 1982م، ليترأَّس من جديد قسم تحقيق التُّراث التَّابع لها، فكان عملُه فيها أنضجَ وأرحب، ويمكن القول: إنَّ أهمَّ إنجازاته في تحقيق التُّراث قد تمَّت أثناء عمله في هذه المؤسَّسة التي تُعد بحقٍّ رائدةً في بعث التُّراث العربي الإسلامي.

ولعلَّ ما كتبه الدكتور (بشَّار عوَّاد معروف) في مقدمته لكتاب (سير أعلام النُّبلاء) في معرِض حديثه عن تحقيق الكتاب، يجلِّي نواحيَ مهمَّة من طبيعة العمل الذي نهض به الشيخ الأرنؤوط في قسم تحقيق التُّراث بالمؤسَّسة، يقول: .. ثم توَّج عمله -صاحب الرسالة- بأن ندب لمراجعة الكتاب والإشراف على تحقيقه، عالماً بارعاً، متأبهاً عن الشُّهرة، قديراً على تذليل الصعاب، فطناً لإيضاح المبهم، كفياً بتيسير العسير، هو الأستاذ المحدِّث الشيخ شعيب الأرنؤوط، وقد عرفتُ لهذا العالم فضلَه الكبير على هذا السِّفر النَّفيس، آثِرَ ذي أثير حين اشترط أن يُقام التَّحقيق على أفضل قواعده.. وهو اليوم فارسُ هذا الميدان الخطير الذي كشف مغابنه، واستشفَّ بواطنه.

تلاميذه:

تخرَّج على يد الشيخ شعيب الأرنؤوط في التحقيق عددٌ غير قليلٍ من طلبة العلم، منهم: محمد نعيم العرقسوسي، وإبراهيم الزيبق، وعادل مرشد، وعمر حسن القيَّام، وأحمد عبد الله، وعبد اللَّطيف حرز الله، وأحمد برهوم، ورضوان العرقسوسي، وكامل قره بللي.

وقد قرَّ الشيخ عيناً حين رأى كل واحدٍ من هؤلاء قادراً على القيام بأعباء التعامل الصَّحيح مع علوم السُّنة والاستقلال بعمله.

وأثَرُ الشيخ الأرنؤوط واضحٌ جليٌ في الكتب التي حقَّقها هؤلاء، الذين حفظوا له فضلَه عليهم ورعايته لهم.

يقول الشيخ نعيم العرقسوسي في مقدمة تحقيقه لكتاب (توضيح المشتبه) لابن ناصر الدين: «وأخَصُّ الشكر وأجزَلُه، وعظيمُ الوفاء وأجملُه، إلى من لولا رعايتُه وعنايته ما كنت في عِداد من يُعنى بتحقيق التُّراث، إلى من هو جديرٌ بكل تقديرٍ واحترامٍ، وأهلٌ لكل تكريمٍ وإعظامٍ، إلى فضيلة الشيخ المفضال المعطاء المحتسب أستاذي شعيب الأرنؤوط حفظه الله».

ويقول الأستاذ إبراهيم الزيبق أيضاً في مقدمة تحقيقه لكتاب (طبقات علماء الحديث) لابن عبد الهادي: وبعدُ.. هل تكفي كلمة شكر أزجيها لأستاذي وشيخي شعيب الأرنؤوط؟ وهل تجزي عني كلمة ثناء أكتبها له بحروف المحبة والصدق؟.. إن ما بعنقي له أوسعُ من الشكر، وأجزل من الثناء، إنَّ ما فتح عليه عينيَّ من أمر الحياة، وأنا أتلمَّس طريقي بعقلٍ غضٍّ وقلبٍ مرهفٍ جعل أيامي معه سنين في عمقها وغناها، ثم أخذ بيدي في عالم التَّحقيق، فمنحني ثقتَه وما أغلاها، وأنار دربي بعلمه وما أغزرَه، فلَك يا أستاذي شكرٌ أوسع من الشُّكر، وثناءٌ أعظم من الثَّناء، والله يتولَّى عنِّي حُسنَ جزائك.

وقد كانت علاقةُ الشيخ بتلاميذه علاقةَ الصَّديق بأصدقائه، فكان قريباً منهم، حريصاً على نفعهم وهدايتهم، ولم يكن يفرض عليهم آراءه وأحكامه، بل كان يحثُّهم على أن يُعملوا عقولهم، ويبدوا حجَّتهم، وكثيراً ما كان يستشيرهم، وينزل عند رأيهم، مما كان له أثره الطَّيب في نشأتهم وتعلُّمهم.

منهجُه في التَّحقيق:

للشيخ منهجٌ واضحٌ مستتبٌّ في التحقيق، تجده مطبَّقاً في معظم الكتب التي حقَّقها، أو أشرف على تحقيقها، وكثيراً ما كان يعرض هذا المنهج في مقدماته الضافية التي كان يصدِّر بها هذه الكتب، والتي تشتمل في الغالب -فضلاً عن (منهج التَّحقيق)- على ترجمةٍ وافيةٍ للمؤلِّف ودراسةٍ شاملةٍ للكتاب ووصفٍ دقيقٍ للنُّسخ التي اعتمدها، ونماذجَ من هذه النُّسخ.

إنَّ المحقِّق الأصيل عند الشيخ الأرنؤوط، لا ينحصرُ عملُه في أن يُخرج النصَّ مصحَّحاً كما كتبه المؤلِّف وحسْب، وإنما يتعدَّى ذلك إلى تتبُّع ما أورده المؤلِّف من أفكار، ورجَّحه من أقاويل، وبيان ما جانبَ فيه الصَّوابَ، ولذا كثيراً ما نجده يخالف مؤلِّفي الكتب التي يحقِّقها في بعض آرائهم وأحكامهم، كما قد يخالف كبارَ العلماء المحقِّقين ممن سبقوه، القدماء منهم كالحافظ ابن حجر، والمحدَثين كأحمد محمد شاكر. على أنه إذ يخالفهم، ويسجِّل مؤاخذته عليهم، يحرص كلَّ الحرص على أن يؤكِّد أن مخالفته إيَّاهم وانتقاده لهم، لا ينقص من قَدْرهم الجليل، ولا يغضُّ من قيمتهم، متمثِّلاً قول الإمام أحمد رحمه الله: «لم يعبر الجسر إلى خراسان مثلُ إسحق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن النَّاس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً».

والواقع أنَّ هذا الأسلوب المتَّزن في النَّقد مِن أَظهر ما يتميَّز به منهج الشيخ الأرنؤوط في التَّحقيق، إذ قلَّما تجده في كتابات المشتغلين بهذا الفن في الوقت الحاضر.

آثاره في التحقيق:

بلغ ما حقَّقه الشيخ شعيب الأرنؤوط أو أشرف على تحقيقه، نيِّفاً وأربعين ومئتي مجلد، شملت كتب السُّنة النَّبوية، والفقه، وتفسير القرآن، والتَّراجم، والعقيدة، ومصطلح الحديث، والأدب وما إلى ذلك.

ومن أهمُّ هذه الأعمال وأبرزها:

1 – (شرح السُّنة) للبغوي، ستة عشر مجلَّداً.

2 – (مهذَّب الأغاني) لابن منظور، اثنا عشر مجلَّداً.

3 – (المبدع في شرح المقنع) لابن مفلح الحنبلي، عشرة مجلَّدات.

4 – (زاد المسير في علم التَّفسير) لابن الجوزي، بالاشتراك مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، تسعة مجلَّدات.

5 – (مطالب أولي النُّهى في شرح غاية المنتهى) للرحيباني، بالاشتراك مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، ستَّة مجلَّدات.

6 – (الكافي في فقه الإمام المبجَّل أحمد بن حنبل) لابن قدامة، بالاشتراك مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، ثلاثة مجلَّدات.

7 – (سير أعلام النُّبلاء) للذَّهبي، خمسةٌ وعشرون مجلَّداً.

8- (العواصم والقواصم في الذبِّ عن سنة أبي القاسم) لابن الوزير، تسعة مجلَّدات.

9 – (سنن التِّرمذي)، ستة مجلَّدات

10 – (سنن الدَّارقطني)، بالاشتراك مع حسن شلبي، خمسة مجلَّدات.

11 – (زاد المعاد في هدي خير العباد) لابن القيِّم، بالاشتراك مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، خمسة مجلَّدات.

12 – (تاريخ الإسلام) للذهبي، بالاشتراك مع الدكتور بشار عواد معروف، صدر منه أربعة مجلَّدات.

13 – (مسند الإمام أحمد)، صدر في خمسين مجلداً، ضمن (الموسوعة الحديثيَّة الكبرى) التي تنوي مؤسَّسة الرِّسالة إخراجها بإشراف الشيخ.

14 – (الآداب الشَّرعيَّة والمنح المرعية) لابن مفلح الحنبلي، بالاشتراك مع عمر حسن القيَّام، أربعة مجلَّدات.

15 – (طبقات القرَّاء) للذهبي، بالاشتراك مع الدكتور بشار معروف، مجلَّدان.

16 – (شرح العقيدة الطحاويَّة) لابن أبي العز، بالاشتراك مع الدكتور عبد الله التُّركي، مجلَّدان.

وفاته:

توفى رحمه الله في يوم الخميس 26 محرم 2016م في مدينة عمان.سنة 1438 هـ الموافق27 أكتوبر

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>