اللغة العربية لغة القرآن الكريم: مباني ومعاني: (22)


مناقشة السؤال المعلق “حـ”. وهو من الأسئة الثلاثة المثارة في الحلقة 19 المحجة عدد 429. وقد ناقشنا في الحلقة الماضية 21 المحجة عدد 465 السؤال “ب” وهو: (هل يدرك المتعامل مع النصوص المكتوبة باللغة العربية دلالات كل ما يستعمله من مكونات الكلام أثناء شرح النصوص أو قراءتها). ونعني بمكونات الكلام كل ما يساعد على البيان من حرف أو حركة، أو شكل دون آخر من أبنية الكلمات؟.

وفي سياق مناقشتنا لهذا السؤال، استشهدنا بمجموعتين من الأمثلة لاختبار صلاحيتها، أمثلة مطابقة لمصطلح البنية، واتضح لنا في النهاية أن هذا المصطلح قاصر عن استيعاب أمثلة المجموعتين الممثل بهما؛ لأن كل نوع من هذه الأمثلة ينضوي تحت مفهوم خاص من المفاهيم الكبرى التي تصنف ضمنها الكلمات في اللغة العربية هما: السماع والقياس، وبعد عرض نماذج من النصوص التي تتضمن العبارات والكلمات الموضحة لمعالم هذا المفهوم أو ذاك من بين المفهومين المذكورين خلصنا إلى نتيجة هي: أن المكون الأساس الذي ينبغي اعتماده في تعميم مصطلح البنية على مكونات الكلام في اللغة العربية هو دلالة الحرف في بنية الكلمة. وقد قدمنا أمثلة بهذا الخصوص قسنا عليها لحل الإشكال الذي نحن بصدده. وبهذا نكون قد مثلنا بالفعل لمكونات الكلام التي نعنيها في هذا السؤال “ب”.

ونرى أن إعطاء أمثلة مجردة أو ضمن نصوص لهذه المكونات يعتبر إجابة ضمنية عن السؤال الثالث “حـ”: هل نستحضر دلالات مكونات الكلام –المشار إليها قبله أثناء تلقين قواعد اللغة العربية للراغبين فيها من المتعلمين، أو بمعنى آخر هل نربط بين دلالة المكون اللغوي في قاعدة ما (أو علامة) وبين وظيفته التي يؤديها في البيان أَثْنَاء عملية التلقين؟.

لقد أعدنا كتابة السؤال الثالث قصدا لنربطه مباشرة والذي قبله بما نعنيه من مكونات الكلام.

جرى العرف منذ زمان على أن المقصود بقواعد اللغة العربية هي النحو والتصريف والبلاغة، ونصوص من فقه اللغة أحيانا. وقد تأثرت الدراسات اللغوية العربية حديثا بالدراسات الغربية المستوردة، فصنفت الدراسات اللغوية إلى ثلاثة مستويات أساسية تأثرت في تسمياتها بالمصطلحات المستوردة. أحدث اعتمادها خللا في مصطلحات بعض المفاهيم العربية الأصلية كاستعمالهم مصطلح الأصوات مفصولا عن مصطلح الحرف، والاقتصار على مصطلح التركيب الذي يعتبر حلقة من حلقات تعريف الكلام، فلو تَمَّ اعتبار وظائف مكونات الكلام في اللغة العربية لتم تجنب الوقوع في مثل هذه الأخطاء المنهجية في قواعد اللغة العربية. ولهذا السبب وما يشبهه نقدم نماذج من مكونات الكلمات التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار باعتبارها مباني لضبط المعاني من ذلك ما يلي:

1 – كيفية الكتابة: ذلك أن ثمة أنواعا من الكلمات تحتمل الكتابة بأكثر من وجه، والأمر المرجح للكتابة بوجه دون سواه هو قصد المتكلم وإرادته؛ لأن كل واحد من بين النّوعينِ المحْتَمِلَيْنِ للكلمة الواحدة له دلالته الخاصة، وتتجلى هذه الظاهرة في بعض أحرف المعاني مثل “ما” و”حيث” و”من” و”لا”… وفي هذا السياق نقدم ما يسمح به المقام من أمثلة هذه المسألة وهي كما يلي: يقول ابن قتيبة:

«1 – باب “ما” إذا اتصلت:

أ – تقول: “ادع بمَ شئتَ”، و”سَلْ عمّ شئتَ”، و”خذه بِمَ شئتَ”، و”كن فيم شئتَ”. إذا أردتَ معنى سل عن أي شيء شئت نقصت الألف. وإن أَرَدْتَ سَلْ عن الذي أَحْبَبْتَ أَتْمَمْتَ الألف فقلتَ: ادع بما بدا لك وسل عما أحببتَ، وخذه بما أردتَ، كل هذا تتمم فيه الألف…

ب – واعلم أن الحرف يتصل بما اتصالا لا يتصل بغيرها، تقول إذا استفهمت: فيم ضربتَ؟ فتنقص الألف، وإذا كان في غير الاستفهام أَتْمَمْتَ فتقول: “جئتُ فيما سألتكَ” وتقول: “كل ما كان منك حسن” و”إن كل ما تأتيه جميل” فتقطعها لأنها في موضع الاسم، فإذا لم تكن في موضع اسم وصلتها فتقول: “كلما جئتك بَرَرْتَنِي” و”كلما سَأَلْتُكَ أخبرتني”.

ح – وتكتب “إنما فعلتُ كذا” و”إنما كلمت أخاك” و”إنما أنا أخوك” فتصل، فإذا كانت في موضع اسم قطعته، فكتَبْتَ: “إنَّ ما عندك أحب إلي” و”إن ما جئت به قبيح”.

وقد كتبت في المصحف، وهي اسم، مقطوعة وموصولة، كتبوا: قوله تعالى: إِنَّ ما توعدون لآت(الأنعام: 135) مقطوعة. وكتبوا إنما صنعوا كيد ساحر(طه: 68) موصولة وكلاهما بمعنى الاسم، وأحب إلي أن تفرق بين الاسم والصلة، بأن تقطع الاسم وتصل الصلة.

د – “مع ما” إذا كانت بمعنى الاسم فهي مقطوعة، وإذا كانت “ما” صلة فهي موصولة…

هـ – وتكتب “أينما” موصولة “كنت فَافْعَلْ كَذَا” كما في قوله تعالى: أينما تكونوا يدرككم الموت(النساء: 77) و”نحن نأتيكَ أينما تكونُ” موصولة؛ لأنها في هذا الموضع صلة وصلت بها “أين” ولأنه قد يحدث باتصالها معنى لم يكن في “أين” قبل، ألا ترى أنك تقول: أين تَكُونَ فترفع، فإذا أدخلت “ما” على “أين” قلت أينما تَكُنْ “نكن” فتجزم؛ لأن “تَكُونُ” في الأول بمعنى “269″ الاستفهام، وإذا كانت “ما” في موضع اسم مع “أين” فَصَلْتَ فقلتَ: “أين ما كنت تعدنا؟ أين ما كنت تقول…» (أدب الكاتب 194).

نقف في هذا النص عند هذا المقدار الذي اقتطعناه من أمثلة هذا الباب. وهي أكثر مما ذُكِر. وهذا يتضمن أربعة أنواع من أحوال “ما” حين اتصالها بغيرها من أحرف المباني أو المعاني، وكل نوع من هذه الأحوال يحتمل الثنائية في شكل الكتابة، ولكل نوع من الكتابة وظيفته الدلالية الخاصة التي يرشحها قصد المتكلم. والذي يلفت الانتباه في مادة هذا النص أكثر من سواه أمور ثلاثة هي:

أولها:حضور قصد المتكلم في توجيه شكل الكتابة إلى معنى دون سواه، وهذا ما تنص عليه الكلمات والعبارات التالية في رقم “أ”. تقول… إِذَا أَرَدْتَ معنى سَلْ… وإن أَرَدْتَ سَلِ الذي أحْببتَ… وفي رقم “ب” واعلم أن الحرف الذي يتصل بها… وتقول إذا استفهمتَ فيم ضربتَ؟. ..وفي “ج”  فتَصِلُ… قَطَعْتَهُ… وفي “هـ” ألا ترى أنك تقول… فإذا أدخلتَ “ما” على أين فَصَلْتَ فَقُلْتَ…

هكذا يتضح توجيه الكلام إلى المخاطب المفرد وهو متعلم اللغة العربية المفترض. وهذا ما يعني الإجابة عن السؤال الثالث والأخير “ح” الذي هو عنوان هذه الحلقة: “هل نستحضر دلالات مكونات الكلام المشار إليها قبله أثناء تلقين قواعد اللغة العربية للراغبين فيها من المتعلمين؟” ذلك أن المتعلم لا ينبغي أن يلقن القواعد مفصولة عن وظائفها البيانية، وهذا توجه له حضور قوي في مناهج مؤسسي قواعد اللغة العربية مثل سيبويه.

د. الحسين كنوان

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>