قيم الجمال في الإسلام وأثرها في الحفاظ على البيئة


قيم الجمال في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة كثيرة ومتعددة، موزعة بين الآيات والأحاديث، في سياقات مختلفة، لكنها تهدف إلى بيان الجانب الجمالي في الإسلام، باعتباره دينا سماويا جاء لهداية البشرية وإرشادهم لكل ما هو جميل في الصفات والأفعال  والأقوال والأحوال، وملبيا لحاجات الإنسان الذي فُطر على حب الحُسن والجمال.

فالجمال موجود في كلام الله تعالى، في كلماته ونظمه ومعناه، وقد تصدت العرب للجانب الجمالي في القرآن فلم تستطع معارضته ولا الإتيان بمثله، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة، وفي هذا تأكيد على ربانية هذا الكتاب، وأنه ليس من صنع البشر، بدليل ما في القرآن من لمسات الجمال كما في باقي أجزاء الكون والبيئة. وفي الأحاديث النبوية جمال تعبير وبلاغة كلام، كيف لا وهذه الأحاديث صادرة عن من أوتي جوامع الكلم.

والناظر في النصوص الشرعية يجدها حافلة بمعاني الجمال، ابتداءا من خِلقة الإنسان وهيئته التي خلقه الله تعالى عليها، حيث يقول سبحانه: يا أيُّها الإنسانُ ما غَرَّكَ بربّكَ الكريِم الذي خلقكَ فسوَّاك فَعَدَّلكَ في أيّ صورةٍ ما شاءَ ركَّبكَ(الانفطار: 6-8)، وهذا تنبيه من الله تعالى إلى حُسن خِلقة الإنسان، الذي خضع للتسوية والتعديل حتى كان على أحسن صورة، والتسوية –كما عرفها الطاهر بن عاشور في تفسيره- هي: “جعل الشيء سويا؛ أي: قويما سليما، ومن التسوية جعل قواه ومنافعه الذاتية متعادلة غير متفاوتة في آثار قيامها بوظائفها، بحيث إذا اختل بعضها تطرق الخلل إلى البقية، فينشأ نقص في الإدراك أو الإحساس، أو نشأ انحراف المزاج أو ألم فيه، فالتسوية جامعة لهذا المعنى العظيم”، أما التعديل فهو: “التناسب بين أجزاء البدن مثل تناسب اليدين، والرجلين، والعينين، وصورة الوجه، فلا تفاوت بين متزاوجها، ولا بشاعة في مجموعها. وجعله مستقيم القامة”، وفي سورة أخرى: لقد خَلَقْنا الإنسانَ في أحسنِ تقويمٍ(التين: 4). ويبين النبي  هذا الإحسان والإتقان في الخلق بقوله: «اللهم كما حسَّنْتَ خَلْقي فحسن خُلُقي»، وإذا كان هذا الإحسان في الخلقة، فقد نبهنا  على أهمية الإحسان في الأخلاق والمعاملة، ليرتقي الإنسان في معاني الجمال نحو الكمال. وليرى وينتبه إلى مظاهر الجمال في البيئة التي يعيش فيها، ويحافظ عليها ويعتني بها.

وينبه القرآن الكريم على مظاهر الجمال في هذه البيئة التي هي مأوى الإنسان في الحياة الدنيا: جمال الكون عامة وجمال الأرض خاصة، حيث يقول الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا(الكهف: 7)، قال القرطبي: “والزينة كل ما على وجه الأرض؛ فهو عموم لأنه دال على بارئه”. فكل ما خلقه الله على الأرض هو بقصد تزيينها وتهيئها لاستقبال الإنسان، ويقول الله تعالى: أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ(ق: 6) فالسماء أيضا فيها زينة، والله تعالى هو الذي زينها كما زين الأرض وأحسن خلق الإنسان. وهذه الزينة مقصودة حتى يعيش الإنسان في سعادة؛ لأنه يحتاج لهذه الزينة في حياته، ومن أسباب راحته وانشراحه وسروره، وحب الجمال أمر طبيعي وغريزي في الإنسان.

والجمال مبثوث في الحيوانات أيضا التي خلقها الله تعالى لنا، لكي نستفيد منها ونستعين بها على تذليل صعاب الحياة، بما للإنسان فيها من منافع الأكل والشرب والدفء، حيث قال الله تعالى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ(النحل: 5-6) فهذا الجمال الموجود في الأنعام مسخر لنا نحن البشر -كما بينت الآية- نتنتعم به ونستفيد منه في حياتنا، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُون(النحل: 8)،  فالخيل والبغال والحمير زينة للإنسان، قال سيد قطب في ظلاله: “وهذه اللفتة لها قيمتها في بيان نظرة القرآن ونظرة الإسلام للحياة. فالجمال عنصر أصيل في هذه النظرة، وليست النعمة هي مجرد تلبية الضرورات من طعام وشراب وركوب؛ بل تلبية الأشواق الزائدة على الضرورات. تلبية حاسة الجمال ووجدان الفرح والشعور الإنساني المرتفع على ميل الحيوان وحاجة الحيوان”.

وهذه الزينة موجودة في البحار وما تحتويه من حلية اللؤلؤ والمرجان. قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(النحل: 14)، ففي البحر منافع للإنسان وفوائد منها الزينة والجمال، وفي مجال التجمل والتزين أمر الله تعالى بأخذ الزينة عند التوجه لدور العبادة في منظر تعبدي جميل، فقال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ(الأعراف: 29)، وطلب تعالى منا مرعاة الجمال والحسن في المشي وفي رفع الصوت؛ لأن الإسراع في المشي أو البطء فيه مظهر غير لائق حضاريا، والمطلوب هو المشي في توسط واعتدال، ومثله التوسط في استعمال الصوت، وعدم رفعه؛ لأن الأصوات العالية مزعجة، وهناك تلوث سمعي نتيجة الضجيج الناتج عن المحركات والآلات.. لذلك قال الله تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ(لقمان: 18). ولأن رفع الصوت أكثر من اللازم يؤذي السامع.

وهذا مظهر اجتماعي راق، وهذا بيان من الله تعالى لنعمه على العباد، وتبصرة لهم بمواطن الجمال في البيئة، وتنبيها لهم على ضرورة الحفاظ عليها وعلى الجانب الجمالي فيها، حتى لا تفسد هذه البيئة ويذهب جمالها، فتفسد حياة الإنسان ويصيبه الضنك والشقاء.

وقد أمر الله تعالى بالإحسان، ونهى عن الإفساد في الأرض، فقال تعالى: وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(القصص: 77)، والخطاب طبعا موجه للإنسان، فهو المسؤول عن البيئة وعن جمالها وخيراتها؛ لأنها مسخرة له بما فيها من الثروات المائية والنباتية والحيوانية. وبيان الجانب الجمالي في البيئة مقصود منها أيضا تنبيه الإنسان لهذا الجمال وعدم إغفاله، وأخذه بعين الاعتبار في إعمار الأرض وإصلاحها، وتنمية للذوق وصقلا للملكات والمواهب في الإنسان، للإبداع الجمالي في الحياة بما هي عبادة لله بمفهومها الواسع.

ونجد في السنة النبوية الشريفة حديثا مستفيضا عن قيم الجمال وحثا عليها وبيانا لها، فقد قال النبي ، «إن الله جميل يحب الجمال»، فينبه  إلى قيمة الجمال في الحياة وأنها مطلوبة من الإنسان، وأن الله تعالى يتصف بصفة الجمال في صفاته وأفعاله، وله كل صفات الكمال والجمال، وهو تعالى يحب الجمال، والمؤمن مطالب بفعل ما يحبه الله تعالى والابتعاد عما يكره، وسياق الحديث هو بيان تحريم الكبر وذمه وتقبيحه،  عندما قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال : «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس»، قال الإمام ابن القيم: “وقوله في الحديث: «إن الله جميل يحب الجمال» يتناول جمال الثياب المسؤول عنه في نفس الحديث، ويدخل فيه بطريق العموم الجمال من كل شيء”، جمال المظهر في الثياب والهيئة، والبيت ومكان العمل، والحي السكني، ويشمل الجمال الظاهري والجمال الباطني، فالكبر لا جمال فيه، ولا الظلم والحقد أو الحسد، وقد نهى عن ذلك النبي . وقد ذم الله سبحانه الاكتفاء بجمال المظهر الخارجي فقط، دون الجمال الباطن  فقال عن المنافقين: وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم(المنافقون: 4). وقال النبي : «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».

ونجد قيما جمالية كثيرة في السنة النبوية تضيء لنا دروب الحياة، وترشدنا نحو نمط راق في السلوك اليومي الحضاري، فنهى عن البول في الماء الراكد: فعن جابر أن رسول الله  نهى أن يبال في الماء الراكد”، أو يتنفس في الإناء، فعن أبي قتادة   أنّ النّبيّ : “نهى أن يتنفّس في الإناء، وأن يمسّ ذكره بيمينه، وأن يستطيب بيمينه”. ونهى  عن تلويث الطرق، فقال: «اتقوا اللعانين قالوا: وما اللعانان؟ قال: الذى يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم».

والغاية من كل هذه الإرشادات والتوجيهات النبوية هي أن تكون طرقنا وشوارعنا، وأحياؤنا: خالية من التلوث والنفايات المنغصة للحياة. وتبقى نقية جميلة، مريحة في المشي، تبعث في النفس الاطمئنان والراحة والسكينة.

وهذه القيم تحتاج إلى بيانها وتقديمها للناشئة في المحاضن التربوية بدء من الأسرة إلى المدرسة إلى المجتمع المدني.. لترتبط الأجيال بربها فتستمد منه الهداية ويصلح أمرها، وبصلاحها تصلح الأرض بما حوته من موارد بيئية.

د. محمد البويسفي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>