يقظة من سنة


يقطع فلاة قاحلة جرداء، يلفح لظى الحر فيها شغاف قلبه، ويطيش لبه التائه فيها لجهله وجهة المسير، فيطول سيره بزاده القليل وقد حجبت عنه موارد الإمداد.

أوبقته ذنوبه وألقاه جهله في غيابة جب حف قعره بغوامض الآفات، واكتنفته ظلمات ثلاث: ظلمة العوائد وظلمة العوائق وظلمة العلائق؛ عوائد استحكمت فأسرت منه الإرادة وتصدرت السيادة، وعلائق أفرغت القلب من سواها فأعتمت البصيرة، وعوائق ابطأته عن النهوض وخلفته عن ركب السائرين. فتحالف ثلاثتهم في الختم على سمعه وبصره وفؤاده.

فلطالما أغشت غاشية الظلمة بصيرته فتراءت له ماهية الفلاة جنة غناء فعشق زخارفها الزائفة ووطن قلبه على حبها ومنى نفسه بمباهجها السراب، وطامن لها ظهره معلنا خنوعه بعدما أثقلته صخور الفتن وحجارة الزلات. ولكم أضاع من كثير سعيه في متاهات الحياة.

يتساءل بقلب شغوف للخلاص: كيف السبيل للنجاة من ضيق هذا الجب وظلمته؟ هل أستسلم فأوارى في أجداث الصدود والنسيان؟ أم أعلنها قومة صلاح واستقامة عل وارد الامتنان يدلي دلو اليقظة؟

يقف منتصبا ممشوقا بهامته يتطلع لبصيص النور الذي يخترق الظلمات، وفي لحظة تصاف مع نفسه تنفس صبحه بنور اليقين فتذكر قصة الفرس الذي كبر سنه وظهر عجزه، فقرر صاحبه أن يقذفه في بئر جف ماؤه، فاتفق وأهل قريته أن يلقوا نفاياتهم في البئر حتى يدفن الفرس تحتها، لكن الفرس لم ييأس من النجاة، ولم يستسلم للسلبية والقنوط، فكان كلما ألقى أهل القرية أزبالهم ووقعت على ظهره انتفض ليجعلها تحت قدمه، وركبها إلى أن خرج من بئر الظلمات، جعل أثقاله مطية لركوبها ورفض أن تركبه، ففرح به صاحبه وأكرمه حتى موته، وتعجب من صموده ونشاط همته.

صرح حبيس الجب بأعلى صوته، ورددت الجدران صداه: ألم تبلغ همتي همة الفرس؟ فرس لم يبث في أوصاله اليأس بعدما حكم عليه صاحبه بالموت، فلجأ إلى التخطيط والتدبير والتنفيد، فكيف ييأس من ربه صاحب الأمر والتدبير.

أما آن لي أن أقهر وارد الغفلة والتيه، أما آن أن أجعل الاستفادة من زلاتي مرقاة لأفق مبين تنجلي عنه الحجب والأستار ويفتح فيه باب الاستبصار، وتبدل فيه السيئات بالحسنات.

إن كان صاحب الفرس قد ألقاه في البئر بعدما عجز وكبر سنه، فقد ألقاني عجز إرادتي وكبر جنايتي في بئر الهم والحزن، وتضافر التقاعس والعجز والكسل في إلقاء أثقالهم على همتي.

أفما آن لي أن أنتفض لتتساقط حمولاتهم عن ظهر عزيمتي، فاجعل أطيافهم تحت قدمي لأرتقي وأصعد سلم النجاة. فيفرح برجوعي ربي كما فرح صاحب الفرس بفرسه.

وقف خائفا متضائلا تحت الهيبة والتعظيم يناجي ربا عظيم المن، أنقد يوسف من ظلمات البئر أن ينقد روحه الولهى ونفسه المفتقرة إلى رحمة من خلقها ليلهمها رشدها وتقواها.

تجلى عليه ربه بالهداية، وأجاب دعوته، فألهمه رشده، ووصله بحبله الممدود من السماء وفتح عليه باب الاستبصار لآيات القرآن الكريم، فتلى قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ.

فأجاب: بلى آن يا ربي… آن يا ربي…

فكان ممن حظي بالاعتبار، وجعلت له قصص الصالحين ملهمات للاستقامة، فلم ينس قط تجليات الآية الكريمة على نفسه وهمته فآثر أن يقاسمنا ما كان له موقظا من غاشية الغفلة، فقال: مما كان لآية بالغ الأثر عليه الفضيل بن عياض: فقد كان الفضيل بن عياض لصاً يقطع الطريق، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدران إليها، إذ سمع تالياً يتلو: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ فلما سمعها قال: بلى يا رب! قد آن. فرجع فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها قافلة، فقال بعضهم: نرحل. وقال بعضهم: حتى نصبح؛ فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا. قال: ففكرتُ وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين ها هنا يخافوني؟ وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام”.

فرغم تيه نفس الفضيل وطغيانها، وسجنه لها في بئر المعصية، فإن الله  جعل خلاصها على يد بعض السيارة من السالكين إليه فأعتقها من ربقها، وآتاها تقواها، فصلحت توبته بحبل من الله وهب لفضيل طرفه ليتشبث به في الأرض.

فكما خلص الله الفضيل بصدق إخلاصه وتدبره، فقد أنقدني ربي من غفلاتي بقرع آياته لمسامعي، وإيقاظها لجبلة فطرتي من سنتها.

دة. رجاء عبيد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>