ملف العدد – الهجرة النبوية:دلالات هاديات ودرر غاليات


سيرة رسول الله  ليست تاريخا وزمنا فحسب، أو احتفالا واحتفاء سرعان ما يمضي، وإنما سيرته رسمٌ لمعالم الواقع الحي في حياة الناس.

سيرةُ رسول الله  كتاب مفتوح منذ أكثر من خمسة عشر قرنا، لن تُغلق صفحاته إلى أن يأذن الله بالنهاية، ومن أعظم محطات السيرة النبوية حدث الهجرة.

إن حدث الهجرة ليس احتفاء بوقائع مرت وانتهت، وإنما هو التزام متجدّد بتجدّد زمن الأمة حاضرا ومستقبلا. وحقيقة ُالاحتفاء تكمن في تفهّم المعاني وتأمل الدلالات وتنزيل الأهداف. هذه المعاني التي قامت على أساسها دولة الإسلام، ومكّن الله بها للأمة في الأرض لقرون من الزمن. إن الهجرة بدلالاتها الكبرى قيمة مستمرة في حياة المسلمين، ومطلب إسلامي حين تدعو الضرورة إليه، للتضحية من أجل الدين والمبدأ والفكرة والمعنى، لا يُعفي منه التعلّلُ بمبررات الدنيا الزاهية، ولا مُثَبّطات الحياة الآسرة، ولذلك كان التهديد الرباني للمتذرعين بالحجج الواهية، لتعطيل ما يسهم في التمكين للرسالة الخاتمة، قال تعالى: إن الذين تَوَفّاهم الملائكةُ ظالمي أنفسِهم قالوا فيمَ كنتُم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرضُ الله واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنمُ وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفُوّاً غفورا (النساء: 96-98).

الهجرةُ لم تكن من بلد إلى بلد أفضلَ، أو طلبٍ لحياة عيش أرغد، وإنما هي تركٌ للديار، وبذلٌ للأموال والأرواح حفظا لحسن الاختيار.

الهجرة رحلة شاقة لم يمنع منها التعلّق بالبلد الحرام الأحبُّ إلى قلب الحبيب، ولذلك نظر النبي  إلى مكة مخاطبا إياها بقوله: «إنك أحبُّ البلاد إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت».

الهجرةُ لم تكن هروبا من مواجهة واقع آسن، ولا فرارا من مقاومة بيئة شركية موبوءة، ولا نكوصا عن مقارعة مجتمع كفري عنيد، وإنما كانت تمهّد لمرحلةٍ جريئة، وأيامٍ عظيمة حاسمة لمصير الدعوة والدولة، بل ولمصير الإنسانية كلِّها. إن أول كلمات خطّها رسول الله  في مشروع الهجرة المباركة -قبل وقتها بزمن حين جاءته قريش مُساوِمًةً- هي كلمات معدودات، اختصرت عظمة النبي الكريم عقيدة وفكرا وبيانا: «والله يا عمّ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الدين ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه» (سيرة ابن هشام)، فلو قبل محمد  المال والجاه والمنصب لما كان في حاجة إلى أن يهاجر أصلا، لكنه كان يريد ما هو أعظم من الشمس والقمر، ما هو أعظم من المال والجاه، كان يريد عقيدة تنتشر، وفكرة تسود، ومجتمعا يتأسّس، وإسلاما يقوم على وجه الأرض.

فأي دلالات هاديات، من درر الهجرة الغاليات؟

1 – مقصد النية:

إن ظاهرة الهجرة من البلد الأم في العصر الراهن، شكلت عنوانا من عناوين مآسي الإنسان في البنية الاجتماعية المعاصرة، فهل تستوي الهجرة بالدين وللدين، والهجرة بالدنيا ولها؟ يقينا لا يستويان مثلا، ولذلك كانت الهجرة النبوية فعلا محفوفا بمقصد النية الذي يقاس به العمل قبولا ورفضا فـــ «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (البخاري). وشتان بين هجرتين: هجرةٍ إلى امرأة ينكحها أو دنيا يصيبها، وهجرةٍ لبناء أمة، لا يستوي من ترك عزيزَ ما يملك، ابتغاء مرضاة الله، ومن عاش لحياته ودنياه.

 2 – التجرد:

لقد حملت مقدمات الهجرة صورا عظيمة للتجرد للدين ولأهداف الإسلام الكبرى، في صنيع أبي بكر بماله كله وترك بيته خاليا إلا من فتيات ربّاهن الإسلام، ومنهن أسماء المجاهدة  ذات النطاقين، يدخل عليها جدُّها وكان أعمى وكان كافرا، فيقول: فَجَعَكُنَّ أبوكن أخذ المال كله، تقول أسماء: فأخذت أحجارا ووضعتها في كيس من جلد، وأخذت بيد جدي الأعمى فوضع يده فظن أنه مال، ثم تقول: “فوالله ما ترك لنا أبي شيئا ولكن أردت أن أسكت هذا الشيخ”، هذا نموذج للتجرد من أجل تحقيق الأهداف، فهل نتجرد من الدنيا كما تجرد منها هؤلاء العظام، وهل نبذل أعشار ما بذلوا. إن الانتماء للدين وحده لا يكفي، فزعْمُ التدين بعاطفة خادعة تعطيل لأهداف الدين الكبرى.

3 – الهجرة سبيل بعد استنفاذ أبواب العمل:

بعد ثلاث سنوات من موت أبي طالب وخديجة رضي الله عنها، ضاقت الأرض بالدعوة، فكانت الحاجة إلى مكان يُنصر فيه الحق، وتُحضن فيه الدعوة، كان من الممكن أن يكون مكانُ الهجرة مختلفًا عن المدينة، ولكن الله أراد أن تكون طيبةُ دارَ الهجرة، فليس المكان هو المهم، ولكن الأهم أن الهجرة لم تكن عملا سلبيا، أو كسلا عن الدعوة في مكة، أو هروبا من تكاليف الدعوة أو استسلاما لضعف النفس مما لاقت من عناء، ولكن ما ترك المسلمون بلدهم إلا بعد أن أُغلقت تماما أبواب الدعوة.

والعبرة، أنه إذا بقيت أبواب العمل مفتوحة فالأوْلى أن يبقى المسلم مرابطا على ثغر من ثغور الإسلام، حتى وإن قلَّت متطلباتُ العيش الرغيد، حتى يستنفذ المسلم طاقاته كلَّها، ويتخذَ الأسباب جميعَها في العمل للإسلام، حتى إذا ضاق المكان، وسُدّت منافذ الخير كان البحث عن مجالات أخرى وإبداع وسائل جديدة، فلكل مرحلة وسائلها وظروفها ومنهج عملها، ولذلك من الخطأ أن يُصرَّ المسلم على الوسائل نفسها، أو يتعصبَ لمنهج بعينه، بل لا بد من تكييف مناهج العمل ووسائله على ضوء الأهداف لأن الدعوةَ أمر ثابت والمناهج والوسائل متغيرات، هذا درس رباني مهم، ومنهج قرآني متكامل في تسديد العاملين، والدليل على أن الهجرة النبوية لم تكن خيارا نبويا محضا، ولا قرارا محمديا خالصا، وإنما كانت أمرا إلهيا حين استنفذ النبي  كل أسباب الدعوة في مكة، فكان عليه أن يجدَ المكان، ويتيحَ للدعوة مجالاتٍ أرحبَ، وفضاءاتٍ أنسبَ، فكانت الهجرة إلى المدينة.

4 – الهجرة مطلب إنساني:

لقد سبقت الهجرة َالنبوية هجرةُ الصحابة إلى الحبشة، في حين كانت الهجرةُ -الحدثُ والمعنى- إلى المدينة المنورة، وفرق كبير بين الهجرتين: الهجرة الأولى كانت هدفا صغيرا، في ظرف عصيب تطلّب الهجرة بالدين إلى مكان آمن، حفظاً للنفس وفرارا بالدين، فكان المهاجرون إلى الحبشة بمثابة لاجئين -بمصطلح العصر- إلى ملك عادل لا يُظلم عنده أحد، أما هجرته إلى المدينة فكانت إقامة لدولة وتمكينا لأمة، فكانت المدينة مركزا رئيسا لها وحرما آمنا لأهلها، والعبرة، أن الهجرة إلى الحبشة هجرة بالإسلام إلى رجل قد يستطيع حماية المستضعفين وقد لا يدوم على ذلك، لأن مآله الزوال، لكن الهجرة إلى المدينة هجرةٌ إلى شعب أحب الإسلام، والمعنى أن من شروط نجاح المشروع الإصلاحي أن يكون محتضَنا من لدن القواعد الشعبية التي تبذل أقصى ما تستطيع لإنجاح المشروع، ولو كلف ذلك التضحيةً بالدنيا وزينتها، والحياةِ وزخرفها، والنفس ورغباتها، وموقفُ الأنصار في احتضان النبي وأصحابه خير شاهد، فأثنى عليهم ثناء عظيماً وهو يقول: “لولا الهجرةُ لكنت امرأ من الأنصار، لو سلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكتُ وادي الأنصار أو شِعْبهم”.

5 – الهجرة تخطيط لقيم إنسانية:

لم تكن الهجرة النبوية أمرا ارتجاليا، ولا عملا عفويا، بل كانت بإعداد محكم وصبر جميل، وحكمة بالغة،  وفقه بصير، فما كانت العشوائية أبدا من أساليب الإصلاح في الإسلام، ومن مظاهرها تغليبُ المنهج الأدنى في الإصلاح على الأوْلى، ومن ذلك الرهانُ على التغيير من منطلق الدولة مقابل الأمة أو الشعب حين تُستوفَى شروط بناء القاعدة الشعبية، عقيدة وفكرا وسلوكا، وهو ما كان قد استكمل بناءه رسول الله  قبل حدث الهجرة، وهو الغائب اليوم في مشاريع التغيير، مع التباين الكبير بين واقع شركي بسيط في زمانه، مقابل واقع الاستكبار والكفر في عالمنا المعاصر. إن شعبًا يُساسُ ببرامج كبرى، وإن اسْتُمدَّ من روح الدين، في غياب البناء السوي لهذا الشعب، وتربيتِه على مفاهيم الدين الصحيحة، ومعايير الأخلاق القويمة، وتنمية حب الدين في نفسه، وما يتطلّبه هذا البناء من استعداد وتجاوب للتضحية من أجل الدين وأحكامه ومشاريع التنمية التي تقوم على أساسه، كلُّ ذلك هو البرنامج الأوْلى، والتحدي الأعلى الذي يواجه العاملين للدين، فهل تتوفر هذه القاعدة الشعبية التي تحب الدين، وتبذل من أجله الغالي والنفيس، في واقع تعددت فيه وسائل المكر باليل والنهار، والتخطيط الرهيب للإيقاع بكل من له صلة بالدين، وداعٍ إلى تنزيل مشاريع الإصلاح النابعة من مرجعية الإسلام؟

 6 – الهجرة باب مفتوح للعمل المتواصل:

ولذلك قال النبي : «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استُنفِرتم فانفروا» (البخاري ومسلم). فالجهاد بأشكاله المختلفة، من جهاد بالنفس، وجهاد بالمال، وجهاد بالكلمة الطيبة، والدعوة بالتي هي أحسن، والبذل والحركة المتوازنة، والعمل الصالح.  والسعيد من انشغل بعمله عن قوله وبنفسه عن غيره وبآخرته عن دنياه.

7 – الهجرة وقفة مع الذات لتصحيح الطريق:

من معاني الهجرة: القطيعة ونشدان الشيء، ومعنى ذلك أن الهجرة قطيعة مع مسلك منحرف، ومنهج متذبذب وسلوك خاطئ، وبداية لطريق جديد على أسس مسلمات العقيدة السليمة، والفكر النيّر، والخلق القويم، وهو المعنى الواضح في حديث رسول الله : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (صحيح البخاري).

الهجرة عودة إلى الذات، وتقليب لصفحات الحياة، ومحاسبةٌ للنفس على ما فات، وعزمٌ على التوبة من الزلات، والاستقامة على الطاعات والصالحات. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

د. كمال الدين رحموني  

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>