إلى أن نلتقي – تحية لهؤلاء،ورحمة على أولئك


مع انطلاق السنة الدراسية الجديدة وما يثيره هذا الانطلاق من أحاديث وإعلامات وإعلانات ذات شجون، يتوقف العاقل الحصيف، والمتتبع المتذكر ليوجه التحية إلى جنود الخفاء والعلن، إلى المدرسين والأساتذة الذين اختاروا مهنة التدريس والتعليم وهم يدركون بحق أهميةَ التعليم والتربية، ودورَهما في البناء الحضاري.

تحية لهم حين اختاروا هذه المهنة، وهم يعرفون أنها حقا هي مهنة المتاعب، لا غيرها، وخاصة في زماننا هذا.

تحية لهم حينما قدموها على غيرها، لا لأنهم لم يجدوا غيرَها. وفضلوها على غيرها رغم مشاقها وعِظم الأمانة فيها، وشرف الانتماء إليها، ولم يتخذوها مجالا للارتزاق، ولم يوظفوها لعصر جيوب الآباء بالساعات الإضافية وغير الإضافية.

تحية لهم داخل الحواضر بزحامها وضجيجها وصخبها، وفي أطراف القرى والبوادي ببعدها ونأيها، وصعوبة التنقل إليها.

تحية لهم وهم يدركون أن التربية هي قوامُ المجتمع، والأساسُ المتين لبنائه وتقدمه وتطوره.

تحية لهم وهم يَعُونَ أنهم مربون لفلذات أكبادنا، ويبذلون في ذلك الغالي والنفيس، من أجل أن يكون أبناؤنا قارئين، وأن يكونوا عمادَ المستقبل ورجالَه.

تحية لهم وهم يدركون أن القِسم الذي يُلقى فيه الدرس داخل المؤسسة التعليمية هو مجالٌ للعمل التعليمي والتربوي، مع التفاني في ذلك مهما كلف من ثمن، وليس فضاءً للقيل والقال، وقصّ النكت والسير الذاتية، فضلا عن تقشير البطاطس والجلبان وما شابه ذلك، مما يبدو فيه تصحيح الفروض من قِبَل المدرس وتكليفه التلاميذ بإلقاء الدروس بدلا منه عملا ملائكيا.

تحية لهم وهم يأخذون بيد الضعيف حتى يستوي عوده، ويأخذون على يد المشاغب بالتي هي أحسن حتى يعود إلى رشده.

تحية لهم وهم يعلِّمون بالعبرة، ويربون بالقدوة، حتى ولو لم يتكلموا بأي كلمة.

تحية لهم وهم يعدّون أن أول حافز لهم على بذل المزيدهو براءةُ تلامذتهم وحرصُ هؤلاء التلاميذ على التعلُّم، أما الترقيات فأمر مُلحق، وأما المديح الزائف فلا شأن لهم به.

تحية لهم وهو لا يخشون لا مديرا ولا مفتشا ولا أي مراقب، وإنما يخشون خالقهم قبل أي أحد من هؤلاء؛ ضمائرهم حية، وقلوبهم يقظة، وإيمانهم قوي بشرف المهمة التي يؤدونها والمهنة التي يزاولونها.

تحية لهم وهم يأخذون بكل ما هو نافع ومفيد من الأسباب التربوية والأساليب التدريسية والمناهج البيداغوجية، بغية الارتقاء بالعملية التدريسية، وتيسير التلقي على الأبناء المتعلمين.

تحية لهم وهم يستزيدون من مجال العلم ويغترفون من بحره، معتقدين أن المعلم مهما علا شأنه يبقى متعلما، فنحن أبناء أمة تؤمن أن طلب العلم مستمر من المهد إلى اللحد.

تحية لهم وهم يشعرون أنهم غرباء أو كالغرباء في زمن طغا فيه سلطان المادة بشكل كبير، وتضاربت فيه المصالح الذاتية، وطفا فيه على السطح كل غثاء، وخبا فيه الشعور بالمسؤولية، وانطفأ فيه الإحساس بالوطنية الحقة.

تحية لهم وشعارهم قبل هذا وبعد هذا كله، أنهم “يأكلون الخبز الحلال”، بأداء واجبهم كما ينبغي، قانعين بما رزقهم الله. لا تمتد أعينهم إلى ما في جيوب تلامذتهم أو جيوب آبائهم، ولا يحتالون للوصول إليها أو إلى غيرها، مهما كان الحال.

تحية إلى رجالِ التعليم، ذكورا وإناثا، في زمن قلَّ فيه الرجال، رجال التعليم الذين ساروا على نهج السلف الصالح من المعلمين والمربين، الذين صدق فيهم قول الشاعر: “كاد المعلم أن يكون رسولا”، فبنوا العقول قبل الأجسام، وكوَّنوا الأنفس قبل الأجساد…

فتحية إلى هؤلاء، العاضين بنواجذهم على ما تبقى من مبادئ وقيم في مجال التربية والتعليم، ورحمة على أولئك السلف الذين كانوا كهؤلاء، بل وأكثر من هؤلاء، لأنهم عاشوا في زمن لم يؤتوا ما أوتينا من رفاهية وسائل التواصل، ورغد التكنولوجيا، وتقدم الرقميات؛ فكل ما كانوا يملكونه طباشير أبيض، وسبورة سوداء، وريشة بين أنامل تلاميذهم، الذين هم أيضا لم تكن محافظهم تزيد على دفتر وكتاب، وأحيانا لوحة صغيرة، تعاقبت عليها وعلى الكتاب أجيال وأجيال.

رحمهم الله تعالى رحمة واسعة، وبارك في أعمار من بقي منهم ورزقهم الصحة والعافية، وبارك في خلفهم الذين هم على نهجهم، ورزقهم كل ما يأملون في صحتهم وزادهم وذرياتهم.

أ.د. عبد الرحيم الرحموني

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>