آيات الصدقات


1 – في إخفاء الصدقات وإظهارها:

قال الله تعالى: إنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُوتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَنُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (البقرة: 270).

قال ابن القيم رحمه الله مبينا فضل إخفاء الصدقات ومزية إظهارها: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِي أي فنعم شيء هي، وهذا مدح لها موصوفة بكونها ظاهرة بادية، فلا يتوهم مبديها بطلان أثره وثوابه، فيمنعه ذلك من إخراجها، وينتظر بها الإخفاء، فتفوت أو تعترضه الموانع ويحال بينه وبين قلبه، أو بينه وبين إخراجها. فلا يؤخر صدقته العلانية بعد حضور وقتها إلى وقت السر، وهذه كانت حال الصحابة.

ثم قال: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُوتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فأخبر أن إعطاءها للفقير في خفية خير للمنفق من إظهارها وإعلانها..

وتأمل تقييده تعالى الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصة، ولم يقل: وإن تخفوها فهو خير لكم، فإن مَنّ الصدقة ما لا يمكن إخفاؤه كتجهيز جيش، وبناء قنطرة، وإجراء نهر، أو غير ذلك.

وأما إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها من الفوائد: الستر عليه وعدم تخجيله بين الناس وإقامته مقام الفضيحة، وأن يرى الناس أن يده هي اليد السفلى، وأنه لا شيء له فيزهدون في معاملته ومعاوضته. وهذا قدْر زائد عن الإحسان إليه بمجرد الصدقة، مع تضمنه: الإخلاص، وعدم المراءاة وطلب الـمَحمَدة من الناس، وكان إخفاؤها للفقير خيرا من إظهارها بين الناس.

ومن هذا مدح النبي  صدقة السر وأثنى على فاعلها، وأخبر أنه أحد السبعة الذين هم في ظل عرش الرحمن يوم القيامة. ولهذا جعله سبحانه خيرا للمنفق، وأخبر أنه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته. ولا يخفي عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم. فإنه بما تعملون خبير.

ثم أخبر أن هذا الإنفاق إنما نفعه لأنفسهم، يعود عليهم أحوج ما كانوا إليه، فكيف يبخل أحدكم عن نفسه بما نفعه مختص بها عائد إليها؟

وإن نفقة المؤمنين إنما تكون ابتغاء وجهه خالصا. لأنها صادرة عن إيمانهم، وإن نفقتهم ترجع إليهم وافية كاملة. ولا يظلم منها مثقال ذرة.

وصدّر هذا الكلام بأن الله هو الهادي الموفق لمعاملته وإيثار مرضاته وأنه ليس على رسوله هداهم. بل عليه إبلاغهم. وهو سبحانه الذي يوفق من يشاء لمرضاته.

2 – في إتباع الصدقات بالمَنِّ والأذى:

قال الله : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة: 261)

قال ابن القيم رحمه الله:

هذا بيان للقرض الحسن ما هوإشارة إلى قوله تعالى قبل ذلك: مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفُهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة(البقرة: 243)، وهو أن يكون في سبيله، أي في مرضاته، والطريق الموصلة إليه؛ ومن أنفعها سبيل الجهاد، وسبيل الله خاص وعام، والخاص جزء من السبيل العام، وأن لا يتبع صدقته بمن ولا أذى، فالمنُّ نوعان.

أحدهما: منٌّ بقلبه من غير أن يصرح له بلسانه وهذا إن لم يبطل الصدقة فهو من نقصان شهود مِنّة الله عليه في عطائه المال وحرمان غيره، وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه، فلِلّه الـمِنّة عليه من كل وجه. فكيف يشهد قلبه مِنّةً لغيره؟.

والنوع الثاني: أن يَمُنّ عليه بلسانه فيعتدي على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه وأنه أوجب عليه حقا وطوقه منة في عنقه فيقول:

أما أعطيتك كذا وكذا؟ ويعدد أياديه عنده. قال سفيان: يقول: أعطيتك فما شكرت. وقال عبد الرحمن بن زياد: كان أبي يقول: إذا أعطيتَ رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه فَكفّ سلامك عنه. وكانوا يقولون: «إذا اصطنعتم صنيعة فانسوها، وإذا أسدى إليكم صنيعة فلا تنسوها»، وفي ذلك قيل:

وإنّ امْرَأً أهْدى إِلَيّ صنيعةً

وذكَّرَنيها مرَّةً لَبَخيلُ

وقيل: صنوان؛ مَنْ مَنَحَ سائلَه ومَنّ، ومن مَنَع نائلَه وضَنّ.

وحظر الله على عباده المنّ بالصنيعة، واختص به صفةً لنفسه، لأنه مِنَ العباد تكدير وتعيير، ومِن الله سبحانه وتعالى إفضال وتذكير.

وأيضا فإنه هو المنعم في نفس الأمر، والعباد وسائط، فهو المنعم على عبده في الحقيقة، وأيضا فالامتنان استعباد وكسر وإذلال لمن يُمَنّ عليه، ولا تصلح العبودية والذل إلا لله.

وأيضا فالمِنة أن يشهد المعطي أنه هو رب الفضل والإنعام، وأنه ولي النعمة ومسديها، وليس ذلك في الحقيقة إلا لله.

وأيضا فالمانّ بعطائه يشهد نفسه مترفعا على الآخذ، مستعليا عليه غنيا عنه عزيزا، ويشهد ذل الآخذ وحاجته إليه وفاقته ولا ينبغي ذلك للعبد.

وأيضا فإن المعطي قد تولى الله ثوابه، وردّ عليه أضعاف ما أعطى فبقي عوض ما أُعطيَ عند الله. فأي حق بقي له قبل الآخذ؟ فإذا امتن عليه فقد ظلمه ظلما بيِّنا، وادعى أن حقه في قبله.

ومن هنا -والله أعلم- بطلت صدقته بالمنّ؛ فإنه لما كانت معاوضته ومعاملته مع الله، وعوض تلك الصدقة عنده، فلم يرض به، ولاحظ العوض من الآخذ والمعاملة عنده، فمَنَّ عليه بما أعطاه، أبطل معاوضته مع الله ومعاملته له.

فتأمل هذه النصائح من الله لعباده ودلالته على ربوبيته، وإلهيته وحده، وأنه يبطل عمل من نازعه في شيء من ربوبيته، وإلهيته لا إله غيره، ولا رب سواه.

ونبّه بقوله: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً على أن المن والأذى -ولو تراخى عن الصدقة وطال زمنه- ضر بصاحبه، ولم يحصل له مقصود الإنفاق. ولو أتى بالواو، وقال: ولا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا أذى لأوهمت تقييد ذلك بالحال. وإذا كان المنّ والأذى المتراخي مبطلا لأثر الإنفاق، مانعا من الثواب، فالمقارَن أولى وأحرى.

وتأمل كيف جرد الخبر هنا عن الفاء فقال: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وقرَنَه بالفاء، في قوله تعالى:

الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ فإن الفاء الداخلة على خبر المبتدأ الموصول أو الموصوف؛ تفهم معنى الشرط والجزاء، وأنه مستحق بما تضمنه المبتدأ من الصلة أو الصفة. فلما كان هنا يقتضي بيان حصر المستحق للجزاء دون غيره، جرد الخبر عن الفاء، فإن المعنى أن الذي ينفق ماله لله، ولا يمن ولا يؤذي، هو الذي يستحق الأجر المذكور لا الذي ينفق لغير الله، ويمُنّ ويؤذي بنفقته. فليس المقام مقام شرط وجزاء. بل مقام بيان للمستحق دون غيره.

وفي الآية الأخرى ذكر الإنفاق بالليل والنهار سرا وعلانية. فذكر عموم الأوقات وعموم الأحوال، فأتى بالفاء في الخبر ليدل على أن الإنفاق في أي وقت وُجد من ليل أو نهار، وعلى أي حالة وُجد من سر وعلانية؛ فإنه سبب الجزاء على كل حال، فليبادر إليه العبد ولا ينتظر به غير وقته وحاله، ولا يؤخر نفقة الليل إذا حضر إلى النهار، ولا نفقة النهار إلى الليل، ولا ينتظر بنفقة العلانية وقت السر، ولا بنفقة السر وقت العلانية، فإن نفقته في أيّ وقت وعلى أي حال وجدت سبب لأجره وثوابه.

فتدبر هذه الأسرار في القرآن فلعلك تظفر بها إذ تمر بك في التفاسير. والمنّة والفضل لله وحده لا شريك له.

وقال القرطبي رحمه الله في الآية ذاتها:

الثَّانِيَةُ: لَمَّا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلُ ذِكْرُ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى الْعُمُومِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ وَالثَّوَابَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ لَا يُتْبِعُ إِنْفَاقَهُ مَنًّا وَلَا أَذًى، لِأَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى مُبْطِلَانِ لِثَوَابِ الصَّدَقَةِ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذَا، وَإِنَّمَا عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُرِيدَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَثَوَابَهُ بِإِنْفَاقِهِ عَلَى الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، وَلَا يَرْجُو مِنْهُ شَيْئًا وَلَا يَنْظُرُ من أحوال فِي حَالٍ سِوَى أَنْ يُرَاعِيَ اسْتِحْقَاقَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً. وَمَتَى أَنْفَقَ لِيُرِيدَ مِنَ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ جَزَاءً بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَهَذَا لَمْ يُرِدْ وَجْهَ اللَّهِ، فَهَذَا إِذَا أَخْلَفَ ظَنَّهُ فِيهِ مَنَّ بِإِنْفَاقِهِ وَآذَى. وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْفَقَ مُضْطَرًّا دَافِعَ غُرْمٍ إِمَّا لِمَانَّةٍ لِلْمُنْفَقِ عَلَيْهِ أَوْ لِقَرِينَةٍ أُخْرَى مِنَ اعْتِنَاءِ مُعْتَنٍ فَهَذَالَمْ يُرِدْ وَجْهَ اللَّهِ. وَإِنَّمَا يُقْبَلُ مَا كَانَ عَطَاؤُهُ لِلَّهِ وَأَكْثَرُ قَصْدِهِ ابْتِغَاءَ مَا عِنْدَ اللَّهِ. كَالَّذِي حُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ  أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَاهُ فَقَالَ:

يَا عُمَرَ الْخَيْرِ جُزِيَتَ الْجَنَّهْ

اكْسُ بُنَيَّاتِي وَأُمَّهُنَّهْ

وَكُنْ لَنَا مِنَ الزَّمَانِ جُنَّهْ

أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّهْ

قَالَ عُمَرُ: إِنْ لَمْ أَفْعَلْ يَكُونُ مَاذَا؟ قَالَ:

إِذن أَبَا حَفْصٍ لَأَذْهَبَنَّهْ

قَالَ: إِذَا ذَهَبْتَ يَكُونُ مَاذَا؟! قَالَ:

تَكُونُ عَنْ حَالِي لَتُسْأَلَنَّهْ

يَوْمَ تَكُونُ الْأُعْطِيَاتُ هَنَّهْ

وَمَوْقِفُ الْمَسْؤُولِ بَيْنَهُنَّهْ

إِمَّا إِلَى نَارٍ وَإِمَّا جنَّه

فَبَكَى عُمَرُ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَامُ، أَعْطِهِ قَمِيصِي هَذَا لِذَلِكَ الْيَوْمِ لَا لِشِعْرِهِ! وَاللَّهِ لَا أَمْلِكُ غَيْرَهُ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِذَا كَانَ الْعَطَاءُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ خَالِيًا مِنْ طَلَبِ جَزَاءٍ وَشُكْرٍ وَعُرْيًا عَنِ امْتِنَانٍ وَنَشْرٍ كَانَ ذَلِكَ أَشْرَفَ لِلْبَاذِلِ وَأَهْنَأَ لِلْقَابِلِ. فَأَمَّا الْمُعْطِي إِذَا الْتَمَسَ بِعَطَائِهِ الْجَزَاءَ، وَطَلَبَ بِهِ الشُّكْرَ وَالثَّنَاءَ، كَانَ صَاحِبَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ، وَفِي هَذَيْنِ مِنَ الذَّمِّ مَا يُنَافِي السخاء. وإن طلب كَانَ تَاجِرًا مُرْبِحًا لَا يَسْتَحِقُّ حَمْدًا وَلَا مَدْحًا. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي لا تعطى عَطِيَّةً تَلْتَمِسُ بِهَا أَفْضَلَ مِنْهَا.

أ.د. عبد الرحيم الرحموني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>