معالم في الطريق إلى فهم القرآن الكريم اليوم 3


العنوان الذي اخترت أن أتحدث إليكم فيه هو: “معالم في الطريق إلى فهم القرآن الكريم اليوم“. والمقصود بالعنوان واضح، فالمعالم هنا هي نقط جزئية محددة تتصل بكل أمر من هذه الأمور؛ لكن هذا لا يمكن في مثل هذا الزمان ولا هذا المكان؛ ولكنها مجرد تنبؤات كبيرة أو معالم كبرى ونحن نتجه إلى فهم جيد لهذا الكتاب العزيز، هي معالم في الطريق إلى ذلك، بمعنى أن الانتقال من مَعْلَم إلى مَعْلَم واستجماع هذه المعالم بصفة عامة يمكن -بإذن الله - أن يوصل السائر إلى المراد، وقلت “اليوم” لأن بُعْد الزمان وبُعْد الإنسان في هذا الزمان عما كان، يجعل الحمل ثقيلا على من يريد أن يعود إلى الأصل ليفهمه وفق دلالة الأصل، ووفق زمن لغة التنزل؛ لأنه إذا فهم بأي دلالة متأخرة ما فهم قط، وهذا موجود وكثير، في زماننا وقبل زماننا، وليس الأمر بالهين لكي يصل الإنسان إلى المقصود؛ لكن كما يقال: كل من سار على الدرب وصل.

تحت هذا العنوان مجموعة نقاط:

أولا: مقدمات ممهدات.

ثانيا : هناك خمسة معالم وهي:

المعلم الأول: معلم العلم بلسان القرآن.

المعلم الثاني: معلم العلم بمقام مقال القرآن.

المعلم الثالث: معلم العلم بمفاهيم مصطلحات القرآن.

المعلم الرابع: معلم الإيمان بما جاء به القرآن.

المعلم الخامس: معلم اتباع هدى القرآن.

وأخيرا خاتمة.

فما المقصود بكل مَعْلم؟ وكيف يكون طريقا إلى فهم القرآن الكريم اليوم؟

أولا: مقدمات ممهدات:

أحب أن أتناول فيها أمرا لخصته في مقدمات يبنى عليها ما بعده من المعالم، وهي كالآتي:

المقدمة الأولى: فساد الحال يدل على فساد العمل:

إذا رأينا فساد حال شخص، أو فساد حال أسرة، أو فساد حال مجتمع، أو فساد حال أمة، رأينا فساد الأحوال عامة، فذلك يدل قطعا على فساد الأعمال، فلا تحتاج إلى جهد كبير تضيعه لتبحث في الجزئيات وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير، أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم، وما ربك بظلام للعبيد.

المقدمة الثانية: فساد العمل يدل على فساد الفهم، للعلاقة التلازمية الموجودة بين الفكر والعمل:

إذ لا يكمن أن ينتج فكر فاسد عملا صالحا، ولا يمكن أن يدل عمل فاسد على فكر صحيح، فبينهما تلازم تام، إذ فساد العمل يدل على فساد الفهم، ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. غيّر النعمة: أي نقلها من حال الصلاح إلى حال الفساد، ولا ينقل الله تعالى قوما من حال الصلاح إلى حال الفساد حتى يحدثوا هم في قلوبهم تغييرا هو الأصل في هذا، والتغيير في القرآن كله دائما سلبي وفعل شيطاني:  ولآمرنهم فليغيرن خلق الله. وإن الناس يفهمون الآيتين وكثير من أهل العلم وكثير من أئمة العلم يفهمون الفهم غير الصحيح للفظ التغيير في القرآن الكريم، فهو مضاد ضدية كاملة للإصلاح، والإصلاح نقل الشيء من الفساد إلى الصلاح، والتغيير نقله من الصلاح إلى الفساد، ولا يزال في دارجتنا وأنا الآن وكأني أستمع في قبيلة من القبائل أن امرأة بدوية تقول لولدها بصوت مرتفع فَعَلَ خطأً ما: “ياك آ المغير”.

المقدمة الثالثة: فساد الفهم يدل على فساد المنهج الذي به حصل ذلك الفهم:

فالفهم أيضا مجرد نتيجة توصل إليه وسيلة هي المنهج: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تاويله، وحتى ابتغاء التاويل مستحيل فهو ابتغاء ما لا يجوز؛ لأن التاويل في القرآن الكريم مداره على ما يؤول إليه الأمر في الواقع المستقبلي، وذلك لا يعلمه إلا الله  وحده، وما يعلم تاويله إلا الله، والوقوف هنا واجب، وعدم الوقوف شرك. والراسخون في العلم ليس لهم إلا أن يقولوا آمنا به -لا المحكم لا المتشابه- كل من عند ربنا ليس لهم غير هذا. فالأصل هنا: لا أحد يعلم التاويل إلا الله جل وعلا، يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ومنه تأويل الأحلام لا زيادة، يعني ما الذي يحدث بعد يوم يخرج الحلم في الواقع، هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا.

ولذلك فضبط المنهج يصير عليه المدار، إذ به يتم الوصول إلى ما به يتم الوصول إلى ما به يتم الوصول إلى ما به يتم الوصول إلى ما يرضي الله والرسول.

ثانيا: معالم في الطريق إلى فهم القرآن الكريم اليوم:

 المعلم الأول: معلم العلم بلسان القرآن:

العلم بلسان القرآن الكريم -بكلمات موجزة- يمكن تفريعه إلى علم البيان والتبيُّن، وعلم الصحة والجمال، وعلم المبنى والمعنى.

فمدار علم البيان والتبين أساسا على النصوص التي فيها بيان، والبيان محمود في اللسان العربي، والله تعالى خلق الإنسان علمه البيان، والبيان عند الجاحظ صاحب كتاب “البيان والتبين” هو المقدار، وما فضل عن المقدار هو الخطل، وما نقص عن المقدار هو العي، فهو المنزلة الوسطى المحمودة بين خطيئتين، بين شيئين قبيحين، بين العي والخطل، هذا البيان له إطلاقات الذي يعنينا منها هو هذه النصوص التي تستحق صفة البيان، كانت شعرية أو نثرية أو غير ذلك، هذه النصوص منها يكتسب اللسان بجميع ما يحتاجه هذا اللسان بيانا وتبينا، صحة وجمالا، مباني ومعاني، كل ذلك يأتي من النصوص، فليس النحو والصرف… وقل ما شئت من علوم الآلة ليست هي التي توصل لاكتساب هذه المهارة، خطأ في طرق التدريس؛ لأن أهل الجاهلية وصدر الإسلام لم يكن عندهم لا نحو ولا صرف ولا…؛ ولكي تكتسب أي لسان تحتاج إلى أن تصحب أصحاب ذلك اللسان أو الكلام الذي سمع أو كتب أو.. بذلك اللسان، لذلك فالطفل ببساطة يكتسب لغة أمه كيفما كانت، وبعد ذلك يكتسب مستوياتها، ويذهب شخص مثلا ترك المحراث هنا وذهب إلى ألمانيا، لا يعرف لا كيف يكتب ولا كيف يحسب، وعاش هناك سنة أو سنتين، فعاد ينطق الألمانية ما شاء الله عز وجل، وهكذا إذا ذهب إلى الصين أو إلى اليابان أو إلى أي نقطة يكتسب لغتها دون أن يقرأ لا نحوا لتلك اللغة ولا صرفها ولا أي شيء؛ وإنما فقط يسمع يسجل يحلل وينتج، فهذا الأصل للأسف لم يعد موجودا وكان في القديم هو الأساس في اكتساب اللغة، كان الناس يختارون، وكتاب البيان للجاحظ مختارات أدبية جميلة في نظر الجاحظ وغير الجاحظ بصفة عامة، ولذلك جعلته الأمة كتابا من الكتب الأربعة، فتلك النصوص الموجودة هناك هي على مستوى خاص من البيان العربي، فاكتساب العلم باللغة عنده هذه الصورة البسيطة التي هي في مكنة الجميع، والقرآن نفسه أكبر وسائلها، وحديث رسول الله  من وسائلها، والشعر العربي الفصيح من وسائلها، والنثر العربي الفصيح من وسائلها، فالعلوم الواصفة دائما متأخرة ولا يتوقف عليها اكتساب الأصل.

والشعراء يمكنهم أن يكونوا شعراء في قمة الشاعرية بكل ما تستلزم دون أن يعرفوا عروضا ولا أي شيء، وهكذا كان الأمر أولا وهكذا هو أخيرا متى ذقنا الأمر، فالقرآن الكريم فيه بلغ اللسان العربي كماله، هذا الكمال من كل جوانب الكمال هو موجود هناك، لكي يذاق يحتاج إلى أن يكون لهذا الذي يدخل إليه رصيد من الكلام العربي الذي يرجع إلى فترة التنزل، ولن يفيده كلام المتأخرين، فليس بتلك اللغة نزل القرآن وليس بذلك اللسان نزل القرآن، اليوم توجد ظواهر لغوية لسانية بسبب الخطأ لا بسبب التطوير الاجتهادي أبدا. قلت فهذه النصوص جانب الصحة والجمال فيها يمكن ضبطه من الأصل إذا لم يعرف؛ ولكن في زماننا وقد تراكم ما تراكم في كل علم من العلوم، ومنها علوم اللغة علوم اللسان، لا بأس أن يضبط علوم الآلة، لا التي تضبط الصحة من نحو ومن صرف وغير ذلك، ولا التي تضبط الجمال كالجانب البلاغي على سبيل المثال البلاغة ومستوياتها إلى غير ذلك.

وكذلك أيضا ما يتعلق -وهذا بالنسبة للقرآن ضروري كما سبقت الإشارة- بمسألة المبنى والمعنى، يعني: المعجم بأشكاله المختلفة المفردات والتركيبات والدلالات التي تستفاد من  المفردات ومن المركبات، في مختلف السياقات، هذا أيضا وهو ينتج من الأول ويعين عليه الثاني؛ ينتج من الأول الذي أشرت إليه سابقا من علم البيان والتبين، ويعين عليه الثاني الذي هو علم الصحة والجمال، ولكن المهم في مسألة فهم القرآن هو أن يصحب الإنسان ويتقن هذه الأمور كما كانت في زمن التنزل، وأؤكد على هذا كثيرا، ولذلك اهتم العلماء واهتم القدماء بمختلف أشكالهم بالمعاجم العربية بصفة عامة.

يرى النظر الأوربي على سبيل المثال النظر

الغربي، الذي ليس له دين بمفهوم الدين عندنا وأنتم تعلمون أنه لا يوجد إلا دين واحد مذ آدم عليه السلام حتى تقوم الساعة، لا يوجد دينان على الكرة الأرضية، فدين الله تعالى كما في الآية أفغير دين الله تبغون أو إن الدين من الرحيل، وأصدقكم القول وألخص لكم سبعين سنة وأقول: آثمون هؤلاء المسلمون الذين يجعلون لدولهم ألسنة أخرى غير اللسان العربي، أي لسان القرآن، وهم يقولون إنهم مسلمون، فهم آثمون نتيجة ظروف تاريخية وليس الآن؛ ولكن نتيجة ظروف شتتت الأمة، وكل نادى بطينه الذي هو فيه، فجاءت الملوية، وجاءت الأردية، وجاءت التركية، وجاءت.. كل هذه يمكن لها أن تعيش عيشا عاديا ولها ذلك؛ ولكن لا نتحدث عن اللغة الرسمية؛ لأن الله تبارك وتعالى أراد لهذه الأمة أن تكون شيئا واحدا لا أشياء، فهي أمة ولا يمكن أن يتصور فيها أنها أمة إلا إذا أمَّت شيئا واحدا، وأَمَّها كائن واحد، فمفهوم الأمة يقتضي الدوران على محور ويقتضي الانضمام التام إلى ذلك المحور، ولو كانت أمَّةَ النمل!! فنحن كما قلت في بداية الكلام بعدنا جدا ولن يستطيع الرؤيا منْ لَم يتخلص من مناخ الدرس التاريخي، فمثلا عندما تجلس في مقهى فيها مدخنون بكثرة، فما الذي يحدث ولو كنت لم تدخن حياتك قط؟ لا بد أن تأخذ حظك من الدخان؛ لأن الجو ليس فيه إلا ذلك، ولذلك جاء في الحديث: «يأتي زمان على أمتي من لم يأكل الربا نال من غباره»؛ لأنه يصعب الاحتراز منه، فكذلك الأمر بهذا الشكل، فالذي لم يستطع أن يدخل في مجاهدات ورياضات ليتخلص من هذه الآفات، ويكتسب عينا بدون نظارات، أي: عينا طبيعية لا حمراء ولا زرقاء ولا أي لون، لا يستطيع الرؤيا العادية المطلوبة، فإذن هذا المعلم الذي هو إتقان لسان القرآن الكريم والتمكن منه لأننا بصدد التحدث عن الأمور بصفة الكمال، من أراد أن يفهم القرآن فهما دقيقا ويذوقه ليكتشف أسراره، ويستطيع أن يستنبط الهدى المنهاجي في التفكير وفي التعبير وفي التدبير، وتصريف الأمور في مختلف أنواع مجالات الحياة؛ لا يستطيع ذلك، لا لسبب وإنما فقط لأنه يحتاج إلى هذه الأداة، وأن يكون قد تمكن منها بهذا الشكل الذي أتحدث عنه، فلو تمكن منها بطريق اللسانيات المعاصرة لا يجديه ذلك شيئا، ولا يعني هذا أن اللسانيات المعاصرة ليست بشيء؛ بل هي شيء مهم، ولكن في ظروفها وبالنسبة لزمانها ولقضاياها الحالية؛ أما بالنسبة للقرآن الكريم فلا بد من التمكن من اللغة التي بها نطق القرآن، وبها تكلم القرآن، وبها -لا بغيرها- نزل القرآن، وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين، فمقتضيات هذا لا حد لها، لذلك ينبغي في الأمة أن يراجع التعليم وتراجع أولويات التعليم، وتراجع أولويات الحياة بصفة عامة؛ لكي لا نجرم إجراما ضخما في حق الأجيال، لنخفف قليلا من أحمال الآخرة.

المعلم الثاني: معلم العلم بمقام مقال القرآن الكريم:

هاهنا المدار على: من المخاطِب؟ ومن المخاطَب؟ وما ظرف الخطاب مكانا وزمانا وإنسانا؟

- المخاطِب: من هو؟ لا بد من الانطلاق مِن – وأنت مضطر إلى الانطلاق منه وإلا فلن تستطيع أن تفسر نصوصا كثيرة بغير أن تلتزم بهذا- أن الذي يتكلم هو الله جل جلاله الذي له ملك السماوات والأرض، ونحن جزء من هذا الملك، الذي بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ما يتعلق بالله جل جلاله، وهو نحو ثلث القرآن، إشارة إلى أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن لدورانها على قضية واحدة، هي: من هو الله سبحانه وتعالى؟، فالقرآن مليء بالآيات المعرفة بالله تعالى، إما متحدثة عن أسمائه، أو عن أفعاله وآياته في ملكه… ورابطة لكل شيء به.

من أين يأتي الإشكال؟ يأتي من غيبة الإنسان عن القرآن الكريم، وأنتم تعلمون أن تعليمنا في أربعة أحزاب، وتعطى للطفل الصغير قبل البلوغ، مع العلم أن الخطاب الحقيقي هو للبالغ ذكرا كان أو أنثى، هو الذي تم نضجه ليعقل عن الله العليم الحكيم، ويفهم عن الله جل جلاله، وذلك في الطريق أي تمهيدات تدخل في المحافظة على الفطرة “ما من مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” (أخرجه الشيخان). وستة وخمسون حزبا كأنها لم تنزل على رسول الله نهائيا ولا علاقة لها بنا، فكيف؟ هل هي عبث؟ إذا كانت الأربعة تكفينا فلماذا الباقي؟ فلذلك إن صحب الإنسان هذا الكتاب، وجعله الكتاب لأنه هو الكتاب، وما سواه ليس بكتاب {ألم ذلك الكتاب}. هذا الكتاب جمع فيه خلاصة ما مضى وما يلزم للبشرية فيما هو آت، وبني على أساس أن لا نبي بعد، وإنما هناك الأمة تجتهد عن طريق المجتهدين من الأمة فقط. فلا نبي بعد، ولا رسول بعد، ولذلك يأتي شخص ويضيع لهم أوقاتهم ويقول لهم: نتكلم عن المنهج البنيوي في فهم القرآن الكريم، دراسة بنيوية، ويعزل النص عن قائله، فلن يفهم ولن يدري، وإنما هو تضييع للوقت.

- المخاطَب؟ أيضا لا بد أن يتعرف على المخاطب في ذلك الوقت، وأن يتعرف على جيل الصحابة في ذلك الظرف في ذلك المحيط، ولذلك قلت: ما ظرف الخطاب مكانا؟ لأن هذا المكان كان مجرد واد غير ذي زرع، يختاره الله تعالى لإنزال خير ما عنده من هداية للبشر، فتلك النقطة لا تصلح لأن يذهب إليها الإنسان، لولا هذا الذي اختاره الله عز وجل وأنزله سبحانه، ولكن الواضح أن عبد الله أو أمة الله لا يمكن أن تصل إلى هناك وترغب في أخذ شيء؛ بل يجب أن تتنازل عن كل شيء حتى لا يبقى إلا ما على الجسم، والرجال ليس عندهم إلا الكفن، أي ثوب الإحرام، والذي وصل يتعجب كيف أن الحياة موجودة في ذلك المكان، لولا أن الله جل وعلا أخرج فيه زمزم بقدرته سبحانه عز وجل، فأقول ظرف الخطاب مكانا وزمانا وإنسانا ضروري لفهم القرآن، وهاهنا لا بأس أن أشير إلى شيء سمي بالسيرة الشاملة أو السيرة السنة، القصد هو أن الجهد الذي كان في ثلاث وعشرين سنة، فنزول القرآن كان في هذه الفترة وتنزيله على ذلك المكان وذلك الإنسان وفي ذلك الزمان، وكل ما حدث نتيجة هذا النزول،  وإحلال له في الواقع من الصفر يوم لم يكن ما نزل شيء إلى أن ظهرت الأمة، {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}، وبدأ الانطلاق في العالم بعد منذ تلك النقطة، وانتهت وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا} فاستعد للرحيل {فسبح بحمد ربك واستغفره}. هذه الفترة لم توثق لدى الأمة حتى الساعة بالصورة التي تكون أمامك كالمرآة، كل آية في موضعها، في علاقتها بالإنسان الذي تتصل به، وبالمكان وبالزمان، وكذلك كل حديث، وكذلك كل كلام جاء بعد يمكن أن يلحق بالحديث من كلام الصحابة رضي الله عنهم، كل ذلك يغربل أولا لنحصل على النص الوثيقة، ثم بعد ذلك يربط بزمانه ومكانه وإنسانه في نسق تاريخي منذ {اقرأ بسم ربك} إلى رحيل رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فنحصل على إدخال القرآن وجميع كتب الحديث بكاملها بعد أن تمر بالغربلة طبعا، وأيضا ما يمكن إلحاقه بذلك، وبمجموع ذلك سنحصل على سيرة هي عبارة عن منهاج لإحلال هذا القرآن في الواقع جزءا جزءا، حتى اكتمل الأمر، فعندما اكتمل الأمر أي النزول اكتمل الظهور، فينزل قسط فيصير واقعا، ثم ينزل قسط آخر فيصير واقعا، وهكذا عندما انتهى النزول كان قد تم الكمال للدين نصا، وكمل من حيث الصورة التطبيقية النموذجية أيضا، فهذا الأمر يوم يحدث وسيحدث إن شاء الله عز وجل سيعين كثيرا جدا على هذا الأمر الذي هو ظرف الخطاب، وسيحدث نتيجة جهود طبعا لجيش من الباحثين والعلماء.

المعلم الثالث: معلم العلم بمفاهيم مصطلحات القرآن الكريم:

هاهنا أيضا ثلاثة أمور: هي مسألة خصوصية مفاهيم مصطلحات القرآن، ومسألة توصية النسق والرؤية القرآنية، ومسألة ضرورة المعجم المفهومي للمصطلحات القرآنية.

أول ما يبدأ به أول نص لغوي هو المفردات والألفاظ، وهذه الألفاظ نوعان كبيران:

- نوع يتكلم عن شيء عادي كشرب ودخل وخرج وكتب ونحوها.

-ونوع يدل على ما يقال له اليوم: “المفهوم”، أي يدل على معنى له ارتباطات وامتدادات وأشكال ويكون جزءا من رؤية عامة، هذه هي المصطلحات وألفاظ المعاني بصفة عامة أقول أساسا وستمحص فيما بعد هي مصطلحات، ولا يعجبن أحد من هذا الكلام.

فأولا هناك في التاريخ نصوص عند الذين استعملوا لفظ مصطلحات القرآن قبلنا بقرون من أهل التفسير،  ومن أكثر المكثرين في هذا الاستعمال الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى في تفسيره أكثر من ستة أو خمسة وستين نصا التي استعمل فيها اصطلاح القرآن، ومصطلحات القرآن، والمصطلح القرآني وغيرها؛ ولكن الذي هو أهم من كل هذا هو أن الإدراك الجزئي والتجزيئي للرؤية القرآنية مفسد لها من الناحية العملية، ومفسد للإنسان الذي بني على أساسها، فلذلك لنحصل على ما سبق تسميته بالفهم الكلي النسقي للقرآن الكريم أمامنا مسافة، أول هذه المسافة إحكام أمر المراد بالألفاظ ذات المفاهيم، أي: إحكام أمر مفاهيم القرآن الكريم مفردة ومنسوقة في أنساق، ثم في نسق كلي شامل، هذا الأمر ما سببه؟ يقولون: القرآن جاء باللسان العربي، نعم أتى باللسان العربي، فالألفاظ هي الألفاظ؛ لكن المراد غير المراد، وليس منذ البداية بل في النهاية، ولذلك الألفاظ خاطب الله سبحانه وتعالى العرب بلغتهم التي يفهمون، لكنه أدار الألفاظ في سياقات داخل القرآن الكريم نفسه جعلها تكتسب خصوصية مفهومية لم تكن عند العرب قبل، يتضح هذا بجلاء في الألفاظ الغليظة المعروفة كالصلاة والزكاة الصيام والحج، لم يكن هكذا، فهذا واضح في هذه المعاني الكبيرة ولكنه أيضا في المعاني الأخرى أيضا هناك الخصوصية، فليس الصدق هو الصدق ولا الصبر هو الصبر ولا الوفاء هو الوفاء ولا أي من تلك المعاني، هناك تلك الخصوصية الدلالية بسبب السياقات التي وضع الله عز وجل فيها هذه الألفاظ، فاكتسبت خصوصية خاصة ضمن رؤية خاصة، فالألفاظ ضمن الرؤية الجاهلية أو ضمن الكلام العادي للإنسان لها معنى؛ ولكنها هاهنا لها معنى آخر زائد على ذلك المعنى، فالمعنى الأول منطلق فقط، ولكن عندما تدور مع الأمر حيث دار وتبتدئ في الفرك، وتبتدئ في التحليل بالمعنى الكيماوي، ثم تجمع الجزئيات من كل نص، وتركب ما ينبغي تركيبه في النهاية ستصل إلى أشياء في قمة الخصوصية، وفي قمة الطرافة، وفي قمة الانسجام مع ما لها به علاقة. وهذه الخصوصية في المفاهيم القرآنية أقول هذا سببها، وبسبب هذه الخصوصية يمكن النظر إلى القرآن الكريم على أنه يتضمن معجزة لسانية؛ لأن التطور الذي يحصل في دلالات الألفاظ يحتاج إلى مساحة من الزمن كبيرة تقدر بالقرون كما هو في الألفاظ الأخرى العادية، ولكن في ثلاث وعشرين سنة حدثت طفرات دلالية وطفرات مفهومية، ما كان لها أن تحدث بوجه من الوجوه لولا الله جل جلاله، والقرآن شاهد على هذا يوم يأتي من يستطيع إبراز هذا وبيان هذا.

لذلك كان هذا الشيء الأخير الذي أحببت الإشارة إليه والذي تسمعونه من آن لآن، وهو هذا المعجم المفهومي لمصطلحات القرآن الكريم، فعلا هذا شيء لم يحدث قبل، والطريق الوحيد –حتى الآن-  الذي نعلمه للوصول إليه هو ما يسمى بمنهج الدراسة المصطلحية الذي يقوم على الأركان الخمسة المعروفة: الإحصاء، الدراسة المعجمية، الدراسة النصية، الدراسة المفهومية، العرض المصطلحي. هذا الأمر الحاجة إليه لا تزداد إلا اشتدادا، وهو سيصبح يوم يظهر بحقه فتحا جديدا للأمة، به يبتدئ تجديد فهم القرآن، التجديد لا الفهم الأصلي طبعا فهذا قد كان لكنه أصابه ما أصابه عبر العصور، فكان ما كان مما تعلمون من حال هذه الأمة، ثم إذا تجدد الفهم سيتجدد إن شاء الله العمل..، وسيتجدد العهد.

إذن فمن هاهنا نبدأ وهو هذا الأمر الذي هو الاهتمام بمفاهيم الألفاظ القرآنية بما أمكن من وسائل– وقد قلت يوما سنة 1986: “إن مشكلة المنهج هي مشكلة أمتنا الأولى، فتظهر في كل شيء في أكلنا، في نومنا، في شربنا، في كلامنا، في حكمنا، في أي شيء.

المعلم الرابع: معلم الإيمان بالقرآن الكريم:

هب أن شخصا أوتي العلم باللسان، وأوتي العلم بالمقام، وأوتي العلم بالخصوصية؛ ولكن ليس بمؤمن، هذا لا يمكن طبعا؛ إذ بغير الإيمان لا يمكن أن يفهم القرآن أبدا، فالله سبحانه وتعالى صريح  في هذا الأمر، {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يومنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى} بدل أن يكون لهم نورا ينوِّر لهم الطريق ويبصرون ويستطيعون أن يفهموا فسيفهمون العكس، وهو عليهم عمى، {أولائك ينادون من مكان بعيد}، فالإيمان شرط الاهتداء، والإيمان شرط الوصول إلى ما فيه الشفاء، والإيمان شرط السمع والإبصار؛ لأنه إذا لم يؤمن لن يسمع أصلا، ولا أقصد السمع الفزيائي؛ وإنما السمع القلبي؛ لأن {لهم آذان لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون بها}.

المعلم الخامس: اتباع هدى القرآن الكريم:

كما شرط اللهُ تعالى الإيمانَ لفهم كتابه والاهتداء بكتابه والاستفادة من كتابه،  شرط أيضا اتباع هدى القرآن ؛ لأنه إذا حضر الإيمان بدأ الخير {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم}، بسبب الإيمان يدخل الإنسان فيمن يهدى من عند الله عز وجل_، شرط الاتباع، فهذا الإيمان لا يتصور أيضا بغير اتباع، فلا يمكن أن تدعي أو يدعي مدع أنه يؤمن بهذا القرآن ثم لا يتبع ما فيه، فالاتباع أيضا شرط الاهتداء، {فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} وقال تعالى: {فمن اتبع هدي فلا يضل ولا يشقى}، فلا ضلال إذا كان الاتباع، ولا شقاوة إذا كان الاتباع أيضا، فإن رأينا الشقاوة ورأينا الضلال أيضا فمعناه لا يوجد اتباع، وهو هذا الذي نراه بوضوح، وصلاة الفجر تصدق ما أقول، وكذلك مصلو الفجر هل يصلون؟ من يصلي ممن يصلي؟ أي الأشباح حاضرة فهل الأرواح أيضا حاضرة؟ . فالمهم هو أن هذا الاتباع شرط في الاهتداء، ومانع من الضلال والشقاء، وهو شرط في الخروج من الظلمات إلى النور، {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم}.

خاتمة: في ضرورة الجيل العلمي الراسخ الناسخ:

فلا بد من جيل من أهل العلم راسخ في العلم {والراسخون في العلم}، وناسخ بسبب رسوخه، فينسخ الله تعالى به ما ألقى الشيطان ثم يحكم الله آياته، هذا الجيل الراسخ الناسخ هو الذي سيصحح المنهج، فيصح الفهم، ويصحح الفهم ليصلح العمل، ويصلح العمل ليحسن الحال. لا تقل ذهبت أربابه، فكل من سار على الدرب وصل.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أ. د. الشاهد البوشيخي 

—————————–

* محاضرة الأستاذ الدكتور الشاهد البوشيخي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز فاس في افتتاح ندوة ………. يوم 28 /10/2015 .


اترك رداً على رقية إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

3 thoughts on “معالم في الطريق إلى فهم القرآن الكريم اليوم

  • Samir

    معالم في الطريق إلى فهم القرآن الكريم اليوم 1
    3 أكتوبر, 2016 في العدد 464 / القرآن الكريم و علومه الوسوم : أ.د.الشاهد البوشيخي / فهم القرآن الكريم اليوم / معالم في الطريق / معالم في الطريق إلى فهم القرآن / معلم العلم بلسان القرآن الكاتب : أ.د. الشاهد البوشيخي
    العنوان الذي اخترت أن أتحدث إليكم فيه هو: “معالم في الطريق إلى فهم القرآن الكريم اليوم“. والمقصود بالعنوان واضح، فالمعالم هنا هي نقط جزئية محددة تتصل بكل أمر من هذه الأمور؛ لكن هذا لا يمكن في مثل هذا الزمان ولا هذا المكان؛ ولكنها مجرد تنبؤات كبيرة أو معالم كبرى ونحن نتجه إلى فهم جيد لهذا الكتاب العزيز، هي معالم في الطريق إلى ذلك، بمعنى أن الانتقال من مَعْلَم إلى مَعْلَم واستجماع هذه المعالم بصفة عامة يمكن -بإذن الله - أن يوصل السائر إلى المراد، وقلت “اليوم” لأن بُعْد الزمان وبُعْد الإنسان في هذا الزمان عما كان، يجعل الحمل ثقيلا على من يريد أن يعود إلى الأصل ليفهمه وفق دلالة الأصل، ووفق زمن لغة التنزل؛ لأنه إذا فهم بأي دلالة متأخرة ما فهم قط، وهذا موجود وكثير، في زماننا وقبل زماننا، وليس الأمر بالهين لكي يصل الإنسان إلى المقصود؛ لكن كما يقال: كل من سار على الدرب وصل..