الحضارات سنن وقوانين


إن حركة الأمم والحضارات، قياما وازدهارا وانحدارا، انتشارا وانحصارا، تقدما وتخلفا، فعلا وانفعالا وتفاعلا، لا يتم في التاريخ الإنساني إلا بضوابط معلومة وقوانين ثابتة ومطردة، وسنن جارية لا تتخلف، فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (فاطر: 43)، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (الأحزاب: 62)، وهي بهذه الصفات والمعالم أصناف ومستويات، تحكم حركة الأفراد والجماعات، والأمم والحضارات، وتجري أحكامها في كل القطاعات الاجتماعية وكل المجالات. وتتشابك هذه المستويات والقطاعات في نسيج كلي واحد، تتفاعل أجزاؤه وتتدافع كما تتدافع إطاراته الكبرى وتتنازع على القيادة والسيادة.

إن التحرك الحضاري للأمم رهين بشروط لا يتم إلا بها، وقائم على قواعد لا يقوم إلا عليها، ومحكوم بغايات لا يسير إلا وفقها؛ شروط مؤثرة في حركة الحضارة من مهدها إلى لحدها، ومن ميلادها إلى أفولها، وقواعد ومعايير تحكم تصورها وتصرفها في الكليات كما في الجزئيات، وفي الأصول كما في الفروع، في الثوابت والمتغيرات، في المحكمات كما في الظنيات. وإن حضارة أي أمة لابد أن تحركها غايات ومقاصد تشكل روحها الأصيل ومحركها الذي يمنحها الوجود والحلول في كل المجالات والحقول، ويحميها من الرحيل أو الترحيل. وإن الأمم لا تتميز بمظاهرها إلا لتمايز جواهرها وروح فلسفاتها التي تحدد تصورها للخالق والخلائق، وتؤطر كل ما تنجزه من أفعال ومناهج وطرائق، وما تقيمه من أشكال الصلات والعلائق.

إن تاريخ البشرية لينطق شاهدا أن الأمم قديما وحديثا لم تعرف إلا جنسين من الحضارة؛ جنس قام على أساس الدين، صحيح أو غير صحيح، وجنس آخر قام على أساس مادي دنيوي، وإن حركة التدافع بين الأمم وسنة التداول الحضاري ـ على تباين وسائلها، واختلاف مظاهرها، وتباعد أطوارها وتنافي مبادئها ومصادرهاـ لم تغب عنها هذه الحقيقة، ولم يند شيء عن قوانينها. فلم يكن التدافع إلا بين الديني واللا ديني، وبين الدين الصحيح والدين الـمُحرَّف. فالدين جوهر التاريخ ومحركه، وما الأشكال الأخرى إلا مظاهر وتجليات، ولا تنتقل هذه المظاهر إلى مركز الفعل والتوجيه إلا عندما تتحول إلى عقيدة، فالعامل الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي أو العرقي… كلها محكومة بالمعتقدات، موجهة بها، ولا تصير هي الفاعلة إلا عندما تصير عقيدة ودينا عند أصحابها. ولا أدل على ذلك أن أغلب بناة الحضارات ودعاة تجديدها كانوا أنبياء ورسلا أو أتباعهم، أو زعماء دينيين، أو أرباب معتقدات دينية، أو أصحاب أفكار ومذاهب إصلاحية تشربتها قلوبهم واتبعتهم فيها أممهم وشعوبهم. وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين (النحل: 36).

والحضارات لا سبيل لها إلى الوجود والشهود إلا يوم يحملها أبناؤها في أصلابهم وفي أحلامهم، ويخلصون لها في أعمالهم، ويوم يمثلونها تمثيل النطفة لصاحبها، ويوم يصوغون علمهم وعملهم وفقها لا وفق غيرها. وإن كل حضارة آمن أبناؤها بغير مبادئها، وناقضت أعمالهم توجيهاتها إلا كان ذاك إيذانا بفنائها؛ إلا ما كان من قبيل الاقتراض الباني والتفاعل الإيجابي غير الناقض للمقومات ولا الهادم للمرتكزات.

وإن الحضارات الحقة في تاريخ البشرية كتبت بدماء أخيار الناس وصالحيهم، ولم يسترخص المخلصون في سبيلها أموالهم وأنفسهم، والحضارات الزائفة كتبت على دماء الأتقياء والأبرياء، ولم يتورع زعماؤها عن قلب الحقائق إلى أباطيل، ولم يتوانوا عن تصوير الباطل في صورة الحق، حتى يخفى على ذوي الألباب ما فيها من الخطأ والضلال ومجانبة الحق والصواب، قال تعالى عن فرعون: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (غافر: 26).

وإن الحضارة لا تبلغ مبلغ الرشد الحقيقي والنفع العميم إلا يوم تكون ربانية المصدر إنسانية الإنجاز والمقصد، تقيم تصورها على الإيمان بالله تعالى، وتقيم عملها على العدل بين الناس كل الناس، لا تمييز بينهم لا في الألوان ولا في الأجناس، إلا على أساس التقوى لله رب العالمين، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط (الحديد: 25). يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: 13).

واختصارا للقول فإن الحضارة مظهر من مظاهر الفعل الإنساني الفردي والجمعي، المادي واللامادي ممتد زمانا ومكانا في الأرض، وموجه بقوانين ربانية، ومحكوم بسنن إلهية على قدر العمل بها والوفاء بشروطها يكون العمران الصحيح، وعلى قدر الانحراف عنها يكون الفساد والإفساد.

الطيب بن المختار الوزاني 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>