من المعلوم أن الله جعل لنا أضحية العيد شعيرة من أجمل الشعائر الإسلامية، ومظهرا رائعا للبهجة والسرور، وديننا هو دين يسر وسهولة، لا مشقة فيه ولا تكليف. لكن في واقعنا وخلال الأيام القليلة التي تفصل عن يوم العيد، نرى مشاهد قاسية ونسمع أخبارا مخيفة عن أناس مسلمين يفعلون كذا وكذا بدافع الدين، لأجل الحصول على أضحية العيد. فأين هي مظاهر تيسير الإسلام في أضحية العيد؟.
من مظاهر التيسير وتجلياته أمران:
1 – على مستوى التشريع:
أضحية العيد ليست واجبة، وليست لازمة، وإنما هي سنة مؤكدة على أرجح أقوال أهل العلم، وعلى مذهب جمهور الفقهاء، لم يخالف في سنيتها إلا أبو حنيفة.
يقول ابن رشد رحمه الله: “ذهب مالك والشافعي إلى أنها -الأضحية- من السنن المؤكدة … وقال أبو حنيفة: “الأضحية واجبة على المقيمين في الأمصار الميسورين ولا تجب على المسافرين وخالفه صاحباه”(1). وابن حزم قال: “لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور، ولا خلاف في كونها من شعائر الدين، وهي عند الشافعية والجمهور سنة مؤكدة على الكفاية…(2). ومستند هذا ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي : «من ذبح قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين»(3).
هذا هو حكم الأضحية، إنها سنة بالمفهوم الفقهي للسنة وليس بالمفهوم الحديثي أو الأصولي، ومعناها في هذا السياق، أنها عبارة عن أفعال وأقوال يثاب المرء على فعلها ولا يعاقب على تركها. وأضحية العيد من قبيل هذا الحكم، فالله تعالى يثيب من فعلها ولا يعاقب تاركها، فالغاية منها التعبد بها لله سبحانه أي أخذ الحسنات وتنزل الرحمات من الله . روى زيد بن أرقم قال: قال أصحاب رسول الله : يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: «سنة أبيكم ابراهيم» قيل له: فما لنا بها؟ قال: «بكل شعرة حسنة» قيل فالصوف قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة»(4).
هذه هي أضحية العيد، متجر رباني للحسنات، فمن أراد أن يملأ كيسه بالحسنات فثمنه أضحية العيد، ومن لم يرد فلا شيء ولا إثم ولا عقوبة عليه، وإنما يفوته جبل من الحسنات،
هذا الكلام الفقهي عن الميسورين أي المستطيعين لها، أما الفقراء والمعسورون والضعفاء، فهؤلاء خارجون عن هذا الحديث، فسنية العيد إنما هي للميسورين. ويحددهم الفقهاء بقولهم: “الذين لا تجحف بمالهم أي لا يحتاجون إلى مالها خلال سنتهم”(5).
هذه هي نظرة الإسلام إلى أضحية العيد، سنة على من استطاعها. لكن الواقع فيه شيء آخر. تحتل مكانة الأضحية عنده مقاما أكبرمن أي فريضة أخرى من الفرائض، بله السنن، كل سكان المجتمع يبذلون الغالي والنفيس من أجل الأضحية، لا تعلو أي شعيرة أخرى فوقها، من الناس من يبيع أثاث منزله، ومنهم من يتسلف لها ولو بالربا، ومنهم من يفرق أولاده وزوجته على أبواب المساجد والمقاهي متسولين وطالبين وراغبين في دريهمات لأجل الأضحية، ويصرحون بهذا قصد استعطاف الأغنياء، في حين آخر نجد هؤلاء لا يركعون لله ركعة، ولا يعرفون للواجبات والفرائض مكانة وأهمية.
ها هو الإسلام قد خفف عنهم وأزال عن كاهلهم كل ما هو ثقيل، يقول الله :وما جعل عليكم في الدين من حرج(الحج: 76)، لكن المجتمع عندما ينسلخ ويبتعد عن شريعة ربه يضل ويشقى، قال سبحانه: فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (طه:121).
ويا للعجب نجد زمن سنة الأضحية متوافقا مع زمن الحج المفروض والواجب على كل من استطاع إليه سبيلا، ويصعب في هاته الأيام أن نجد من يتحدث عن الحج وعن رغبته في الذهاب إليه، وهل له برنامج مسطر يحاول من خلاله الحصول على الاستطاعة لأداء مناسكه. كل الكلام الآن وكل المشاكسات والمحادثات إنما هي عن سنة الأضحية. فيا أيها الناس رفقا بأنفسكم ولا تكلفوها ما لا تطيق وامتثلوا قول ربكم: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (البقرة: 285). وستصبح الأمة بخير عندما يصبح اهتمام سكانها بالحلال والحرام كاهتمامهم بأضحية العيد.
2: على مستوى التنويع:
لقد أباح الله لنا في الأضحية أن نضحي بأي نوع من الأنواع الأربعة شئنا ضأنا أو معزا أو بقرا أو جملا، وكل واحد من هذه الأنواع جائز شرعا، فليس البقر أو الجمل خاصا بالأغنياء، وليس الضأن أو المعز خاصا بالفقراء، فللغني أن يضحي بما شاء وللفقير كذلك.
والمذهب المالكي أخذ الريادة هنا في التيسير والتخفيف عن الناس حيث فضل علماؤه الضأن على المعز، والمعز على البقر، والبقر على الجمال، بخلاف الشافعية والحنابلة فعكسوا(6).
ولا يخفى على كل عاقل أن الضأن هي الأرخص في كل تلك الأصناف، وليس واجبا فيها كبش معين، بأوصاف محددة، يزن كذا وكذا ولونه كذا وكذا، وقرناه فيها من الالتواء كذا وكذا…طبعا يستحب الجَمال دائما، لكن السنة تتحقق بذبح ضأن تجاوزت سنه ثمانية أشهر، أو عشرة أو سنة(7). أليس في هذا تحفيف وتيسير على الناس، فللعبد أن يضحي حسب قدرته واستطاعته، بلا قلق ولا ضجر ولا صخب ولا تكلف، فهل يبقى معنى التعبد حاضرا لمن يبيع ثلاجته وتلفازه وأثاثه وقلبه يتقطع ألما وقلقا، ولسانه لا يفتر من الشكوى والتسخط بسبب الأضحية، فهلا ذهب هذا وأمثاله إلى ضأن متوسط لا يبيع من أجله ما تعب له شهورا أو سنوات.
لكن واقعنا واقع قاس، واقع لا يرحم، أصبح سكانه يتنافسون من أجل المظاهر، فالكثير منهم يتبجح بأنه اقتنى كبشا بثمن كذا وكذا، ونجد زوجته لا تفتر عن الحديث عنه أمام جيرانها وصديقاتها، ولا يخشون أن يدخل عليهم الشيطان بذلك الرياء والعجب فتذهب معنى العبادة وينعدم الإخلاص فيها.
فها هو الإسلام خفف علينا وسهل علينا تعبدنا لله سبحانه، فلماذا نكلف أنفسنا ما لا تطيق، ونحملها ما لا تستطيع، وما يؤسف له كثيرا ما نراه من نقاشات شادة بين الزوجين والأولاد حول الأضحية، الزوج يضع يده على المناسب لجيبه، والزوجة لا تبالي فتضع يدها على ما هو أغلى وأعلى، والأولاد يذهبون مذهبا ثالثا، فكيف تكون حلاوة العيد، وجمال التعبد بها لله سبحانه، لمن يتركون شرع الله جانبا ويذهبون وراء أهوائهم وأعرافهم وتقاليدهم.
وصدق الله إذ يقول: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (البقرة: 184)، فاللهم ردنا إلى ديننا ردا جميلا.
جواد الزوين
—————
1 – بداية المجتهد، ص401.
2 – فتح الباري، ج10، ص3.
3 – البخاري، رقم:554
4 – ابن ماجة، رقم:3127.
5 – حاشية العدوي، ج1، ص712.
6 – كفاية الطالب الرباني لرسالة ابن أبي زيد القيرواني، ج1، ص714.
7 – مدونة الفقه المالكي وأدلته، ج2، ص191، للصادق الغرياني.