توازن الخطاب الدعوي


الخطاب الدعوي الإسلامي الموجه إلى الجماهير المسلمة في حاجة إلى ترشيد وتسديد وتجديد دائما، ومن بين ما يحتاجه أن يكون خطابا متوازنا، ونقصد بالتوازن: “إعطاء كل قضية أو مسألة أو مفهوم حقه من غير زيادة ولا نقص بنظرة معتدلة لا إفراط فيها ولا تفريط”.

والتوازن فعل إلهي في الكون، فالله تعالى أقام كونه على العدل المطلق، قال سبحانه: والسماء رفعها ووضع الميزان (الرحمن:7) قال ابن كثير : “يعني: العدل”، كما قال: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط (الحديد: 25) ثم قال-رحمه الله- في قوله تعالى بعدها ألا تطغوا في الميزان أي: “خلق السماوات والأرض بالحق والعدل، لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل”. فالعدل إعطاء كل شيء حقه دون تبخيس.

والراصد لمضامين الخطاب الدعوي المقدم إلى جماهير الأمة في مشارق الأرض ومغاربها يلحظ بجلاء ضعفا شديدا في تحقيق معنى (التوازن) ويتجلى ذلك في مظاهر عدة أبرزها:

1 – التركيز على ثقافة الواجبات دون لفت الأنظار إلى الحقوق.

يركز الدعاة غالبا مع المخاطبين على واجباتهم في كل جوانب الحياة، وهذا شيء جيد، في الدول التي تقوم على العدل، أما الدول التي يسود فيها الظلم فالتركيز على ثقافة الواجبات دون بيان ما للناس من حقوق فهذا من شأنه أن يخلق قطعانا لا شعوبا، وينتج عقليات تعرف فقط ما عليها ولا تدرك أن لها حقوقا مستحقة على من قامت تجاهه بواجباتها، فترضى حينئذ بالظلم والإفقار والاستعباد، وترضى بفتات يلقيه في طريقها هنا أو هناك فاسد جشع، أو مستبد ظالم من أولئك الذين ينهبون خيرات الشعوب ثم يتفضلون عليها بما تبقى من فتات ثم يمنون به عليها بعد ذلك ثم يطالبونها بالشكر.

والإسلام لا يقبل من أبنائه إلا أن يعيشوا كراما أحرارا لا يقبلون الضيم، ولا يرضون الدنية.

2 – توجيه الشعوب والمرؤوسين والتغاضي عن المسئولين والرؤساء.

ويتبع المظهر السابق بل يسببه أن يكثف الدعاة توجيهاتهم دائما للشعوب والمرؤوسين ثم يغضون الطرف عن الرؤساء والمسئولين، مع أن الإسلام يجعل حِملَ المسئولين أكبر ومسئووليتهم أعظم، وواجباتهم أكثر. فمتى أهمل الدعاة ذلك المعنى وتوجهوا بخاطبهم نحو الشعوب والعامة دون رؤسائهم ومسئوليهم، فإن ذلك جدير بترسيخ مظاهر العبودية من طرف الشعوب التي نخدعها بخطابنا من حيث حسبوه إسلاميا، في مقابل تجذُّرِ مظاهر الطغيان والترف من الطرف الآخر الذي لم نقرع آذانه بقوارع الوعظ والتنبيه والتحذير والتوجيه، فيقع الخلل في الحياة.

3 – التركيز على قضايا الثواب والعقاب الأخروي وإهمال الدنيوي.

كثير من الدعاة يُكثر من الحديث عن الجزاء الأخروي دائما جنة ونارا، ولا يلفت أنظار الناس إلى الجزاء الدنيوي العاجل قبل الآجل، مع أن الله تعالى يمنح عباده المؤمنين في الدنيا حياة طيبة قبل الآخرة، ويعاقب العصاة والمنكرين للحق في حياتهم قبل الممات. والتركيز فقط على الجزاء الأخروي من شأنه أن يسبب شعورا لدى هذه الجماهير بأن هناك تعارضا بين الدنيا والآخرة، حيث يشعر المؤمن أن عمله الدنيوي يتعارض مع الأخروي. وأنه لن ينال جزاء الآخرة الحسن إلا بترك أعمال الدنيا، مع أن أعمال الدنيا بحسن النية هي طريق إلى الآخرة، والجزاء جزاءان أولهما: عاجل في الدنيا، وثانيهما: عاجل في الاخرة. والتركيز على أحدهما وإهمال الآخر خلل دعوي يحدث خللا في فهم المسلم وشعوره وسعيه.

4 – التركيز على الأعمال والأخلاق الفردية على حساب الجماعية.

جاء الإسلام موجها الفرد والجماعة والأمة، والواجب أن يقدم الدعاة للناس منهج الإسلام على مستواهم الفردي والأسري والجماعي، ولا نسلط الضوء دائما على الجانب الفردي بحجة إصلاح الفرد، فجزء من إصلاحه المنشود أن يفهم واجباته الاجتماعية والجماعية، والخلل في ذلك ينشئ شعوبا لا يعرف المرء فيها إلا نفسه ولا يدور إلا حول ذاته، وهذا على خلاف المقصد الإسلامي في بناء الأمة القوية المتحابة المتراصة.

5 – ضعف التوازن في الخطاب بين مقاصد الإسلام وكلياته وبين مفرداته وتفاصيلاته.

يتناول الدعاة في خطبهم ودروسهم ومحاضراتهم قضايا مختلفة من قضايا الدين، وربما أجادوا في ذلك. لكنني أتصور أن هذا المسلك إذا خلا من ربط هذه القضايا بمقاصدها وكلياتها من شأنه أن يفقد الخطاب الإسلامي جانبا من توازنه. فلابد من التوازن بين تناول قضايا مفردة من قضايا الشرع ومقاصد الإسلام وكلياته، بالربط بينها وبين كلياتها التي تنتمي إليها. بل من المستحسن أن تبسط مقاصد الإسلام وكلياته في أحداث مستقلة للجماهير بما يتناسب مع فهومهم. ولا يصح بحال أن نغرق الأمة في مفردات جزئية دون أن يدركوا غايات الإسلام وأسراره ومنهجيته في إقامة الحياة.

6 – ضعف التوازن بين الجانب الفكري والجانب الوعظي العاطفي.

يغلب الجانب الوعظي من الرقائق والروحانيات والقصص على كثير من توجيهاتنا الدعوية، على حساب الوعي والفكر والعلم، وهذا خلل بيِّن لأنه يفرز جماهير لا تملك موازين للتفكير، ولا معايير لتقويم المواقف والأفكار والأشخاص والأحداث، فتخدع بسبب ذلك بخطابات أعدائها لمجرد كلمات منمقة أو عبارات استعطاف وترحم، ولو كان قائلها طاغية أو مفسدا أو جبارا.

إن الإسلام دين متوازن، يدعو إلى التوازن في كافة الأمور، ومن أجل هذه الأمور وأخطرها وأعظمها أثرا الخطاب الدعوي، والذي من أبرز خصائصه التي يجب مراعاتها (التوازن).

د. أحمد زايد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>