نتابع الحديث في هذا العدد عن سيرة السفير الأول في الإسلام، مصعب بن عمير ، لنختم الحديث عنه من خلال النقط التالية:
موقف الأخوة الإيمانية:
كان مصعب من الناس الذين سكن الإيمان في قلوبهم، وقطعوا كل الصلات الطينية الترابية، وتعلقوا بالله ، يحبون لله، ويكرهون لله، ولا تحركهم الحمية الجاهلية، ولا النوازع الذاتية، ومن أهم المواقف الإيمانية التي خلدها التاريخ لمصعب موقفه من أخيه أبي عزيز ، فقد كان أبو عزيز مشركا، وكان حامل لواء المشركين يوم بدر، ومصعب حامل لواء المسلمين، وقدر الله أن وقع أبو عزيز أخو مصعب في وثاق الأسر، فكان هذا المشهد الإيماني الرائع الذي رواه أبو عزيز بعد إسلامه حيث قال: “مر بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك، قال وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز، وأكلوا التمر، لوصية رسول الله إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها. قال: فأستحيي فأردها على أحدهم، فيردها علي ما يمسها. فقلت: يا أخي، هذه وصاتك بي؟ فقال: إنه أخي دونك”.
فلم تحركه الحمية الجاهلية لينصر أخاه أو يلين له في مقابل القضية الكبرى التي آمن بها، ويعيش من أجلها، وهي قضية الإيمان بالله وحده، وهذا ما يصنع الإيمان بصاحبه، فرضي الله عن مصعب وجعلنا على دربه سالكين.
- استشهاد مصعب وتركته: كانت قضية الشهادة في سبيل الله هي المطلب الأسمى، والغاية العظمى في ذهن كل صحابي جليل، فكانت تلك هي الشهادة التي يحلمون أن يتوجوا بها مسيرتهم الدعوية، وسيرتهم الكفاحية لنصر هذا الدين العظيم، فكانوا يقدمون على المعارك بشوق كبير لمعانقة الشهادة، والظفر بهذه البغية الكبيرة، وشاء الله لمصعب أن ينال وسام الشرف الرباني ليكتب في زمرة الشهداء، متوجا مسيرته الدعوية بالاستشهاد في سبيل الله، وكان استشهاده دفاعا عن نبي الله ، يقول ابن هشام: “وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله حتى قتل، وكان الذي قتله ابن قمئة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله ” وفي خبر استشهاده ينقل لنا البخاري عن خباب قال: “هاجرنا مع رسول الله نبتغي وجه الله، ووجب أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد، فلم نجد شيئا نكفنه فيه إلا نمرة، كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، فإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا رسول الله أن نغطي رأسه بها، ونجعل على رجليه من إذخر ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها” فهذا النص يبين بالإضافة لاستشهاد مصعب إخلاصه وتجرده من كل المآرب الدنيوية حتى مات ، فلم يترك ما يكفن به، وهذا من أسرار النجاح المبهر الذي حقق الله على يد تلك العصابة المؤمنة، وقد كان من الصحابة من يغبط مصعبا على هذا التجرد الكامل لله تعالى، فقد روى البخاري أن عبد الرحمن بن عوف أتى يوما بطعامه، فقال: “قتل مصعب بن عمير وكان خيرا مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة، وقتل حمزة -أو رجل آخر- خير مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة، لقد خشيت أن يكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا ثم جعل يبكي”.
- زوجة مصعب وخبر استشهاده: كانت زوج مصعب هي حمنة بنت جحش رضي الله عنها، وقد أكرمها الله باستشهاد ثلة من أهلها، وقد استقبلت خبر وفاة أخيها عبد الله بن جحش بصبر وثبات، وخبر وفاة خالها أسد الله حمزة بصبر وثبات، لكنه لم تتمالك نفسها بعد سماع خبر وفاة زوجها مصعب ، كما يقول ابن إسحاق: ثم انصرف رسول الله راجعا إلى المدينة، فلقيته حمنة بنت جحش، كما ذكر لي، فلما لقيت الناس نعي إليها أخوها عبد الله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولولت! فقال رسول الله : «إن زوج المرأة منها لبمكان! لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها، وصياحها على زوجها». وهذا يبين مكانة مصعب وأرضاه.
وختاما أسأل الله تعالى أن يرزقنا شجاعة مصعب وحكمته وقوته، والحمد لله رب العالمين.
ذ. عبد الصمد احسيسن