من تحصيل الحاصل أن أعلن نكبتي على رؤوس الملأ أيها الأحباب، وقد حشر الناس ضحى، ليعلم كل واحد علم اليقين أنه ضالع فيما نالني من خروق، وما تكبدته من جراح، وتجرعته من آلام ولا أزال، فلم يعد من المعقول ولا في الإمكان، أن أتستر على ما أنطوي عليه من علل وأسقام. وليس بمقدور أي كان، أن يتملص من مسؤوليته أمام الله وأمام التاريخ عن تلك النكبة الكبرى والمأساة العظمى التي يشيب لهولها الولدان، وتنهد لها الجبال، ويرتج لها المكان والزمان. لقد أبحرت عبر المحيطات والأحقاب، وواجهت أعتى التيارات والأمواج، وطرقت كل الأبواب، يحدوني الأمل العظيم في بلوغ بر الأمان، وملء أعماقي أسفار الحكمة التي مثلت خلاصة سعي الإنسانية نحو السعادة والخلود، نحو السلام والأمن والاطمئنان، نحو الرضوان والجنان.
لقد كنت دائمة التطلع إلى النهل من منابع الحكمة، ومجانبة أسباب الجهالة والنقمة، ومواطن الظلمة. ولكم كنت نزاعة على مر الدهور، إلى لفظ كل خوان كفور، أو مختال فخور، أو كلب عقور، حرصا مني على أهلي وأحبابي، أن يصيبهم سوء أو ينالهم مكروه. فكان لي ما أردت خلال عهود زاهية لبست فيها لباس العز والسؤدد والفخار، وطردت من حوزتي كل أفاك أثيم ومتطاول جسور. لا أزعم أن إبحاري كان في غاية السهولة والهدوء، فذلك مما تأباه سنن الحياة والوجود. ولكنني أقول بكل اعتزاز ووثوق، بأنه كان في غاية القصد والثبات، وكنت بفضل العزيز المتعال، أعلو أمواجا كرواسي الجبال، وأرتاد عوالم أغنى في مآثرها مما يصوره الخيال؛ لأنني كنت دائمة الاستحضار لمفتاح البر، قول الله العلي القدير: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (البقرة: 177). ولكلمة السر وعنوان الاستخلاف، قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (النور: 55).
حتى أتى علي حين من الدهر تضعضعت فيه ألواحي فلم أعد أقوى على الإبحار، إلا على مضض وإعسار، وضاع مني سر الأسرار، وتكاثرت في رحابي وبين أروقتي كتل من الحشائش والأشواك، ومن البقع السوداء، وانتشرت بين جوانبي روائح خبيثة تخنق الأنفاس وتكدر الأجواء، وضاق صدري وتفاقمت أزماتي وصرت أبحر إلى غير عنوان، على إيقاع رعب كبير، وإنذار دائم بالانفلات من دائرة الأمان، والدخول كليا في دائرة البوار والعماء.
أصبحت من كثرة الخروق في جسدي المكلوم في حال يرثى لها، فالمياه تتسرب إلي من كل اتجاه، وإحساسي بالهوي إلى القاع إحساس رهيب، وألسنة النيران أتت على كثير من مكاسبي وممتلكاتي، بل إن كثيرا من ركابي قضوا على ظهري في أحوال بائسة وأوضاع شنيعة، فمنهم من قضى جوعا، ومنهم من قضى هلعا، ومنهم من قضى تخمة وشبعا، ومنهم من قضى حسرة وألما، ومنهم من قضى اعتلالا وسقما، ومنهم من قضى هما وحزنا، ومنهم من قضى وهنا، وهلم أوجاعا وهلم حرمانا.
ولست أذيع سرا إذا قلت لكم أيها الأحباب، إن مما جرعني مر الآلام، وألقى بي في أتون العذاب والاكتئاب، أنني أضفت إلى همومي على كثرتها ومضاضتها هموم شقيقاتي على طول وعرض خريطة الوطن الكبير، ولطالما روعتني أخبارها المؤلمة، عما نالها من دمار وخراب، وعما أصاب الشرفاء فيها من بلاء، وعضهم من لأواء.
لقد وقفتم أيها الأحباب على خروق في جسدي بالغة الخطورة والسوء، وعرفتم مقدار ما أعانيه جراءها من الألم والشقاء، ومع ذلك أؤكد لكم بكل يقين، وبكل أسف دفين، أنها على خطورتها وجسامتها جز من كل، فالأمر في غاية الخطورة والسوء، ومطارق المكر تنهال على جسدي المسكين بالليل والنهار، فهي لن يقر لها قرار، حتى يقف الأعداء الشامتون على جثتي وهي هامدة في هاوية القرار.
ولكنني أؤكد لكم يا أحبابي أن اليأس لن يتسرب أبدا إلى أعماق نفسي، فقدري أن أغالب الأمواج، وأجالد هوج الرياح، وأن أجاهد إلى آخر رمق من حياتي، وآخر قطرة من دمي، وعدتي في كل ذلك الصمود، كتائب الإيمان المتدرعة باليقين، الداعية إلى الفلاح، الحاملة للواء الإصلاح، المتسلحة بمكارم الأخلاق، المستضيئة بقول الله تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بينة مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب(هود:88).
د. عبد المجيد بنمسعود