أما بعد فيا عباد الله إنه لا سبيل إلى إصلاح الإنسان إلا عن طريق الإيمان، ولا طريق إلى إسعاده في الدنيا والآخرة إلا باتصاله بربه الرحمان، ولا نجاة له من الخسران والهلاك إلا إن آمن بربه واستقام، ولا أمن له من الخوف والقلق والاضطراب إلا بمعرفة ربه والإيمان به، فقد قال تعالى: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات…
وقال عز من قائل: وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، وقال سبحانه: الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون، فالإنسان بالإيمان يعيش الأمن الفكري والتصوري والقلبي والروحي، وبدون إيمان يعيش الخوف والتردد والاضطراب والشقاء وإن أظهر نوعا من الفرح والسعادة، وإن ادعا الحياة الطيبة، فقد قال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى…، الإنسان بالإيمان يعيش حياة النور في الدنيا والآخرة، لأن إيمانه ينور حياته ويجعلها متلألئة بهية، ولأن وليه ربه ورب العالمين الذي يقدر على الإسعاد والإشقاء، يقول سبحانه: الله ولي الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويقول تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم، بينما يعيش غير المؤمن حياة مظلمة لا يهتدي إلى خير، ولا يرى الأشياء على حقيقتها، ولا يميز الخبيث من الطيب، ولا الحق من الباطل، ولا الخطأ من الصواب، يقول سبحانه: والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من الظلمات إلى النور، وفي الآخرة تحيط به الظلمات من كل جانب، لأنه أضاع النور في الدنيا ولم يهتد به، يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين ءامنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا.
الإنسان بالإيمان يعيش حياة مطمئنة، وحياة فيها سكينة؛ يطمئن قلبه ويرتاح ضميره، وينشرح صدره: الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما، أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.
يطمئن قلب المؤمن وتحل فيه السكينة، لأنه علم أن رزقه على الله ، وأنه بيده بسطه وقدره: وما من دابة إلا على الله رزقها، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له.
يطمئن قلبه، لأنه استقر في خلده، أن الملك والملكوت بيد الله: تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون، فلا تصرف لأحد في سماء ولا أرض لا بزيادة ولا نقصان، ولا باستمرار ولا زوال، ولا انخفاض ولا علو، ولا تصرف لأحد في شمس ولا قمر، ولا نجوم ولا بحار، إنما الذي يملكهما هو الله تعالى.
يطمئن قلب المؤمن لأنه يعلم أن الذي يؤتي الملك من يشاء هو الله، والذي ينزع الملك ممن يشاء هو الله ، والذي يعز من يشاء هو الله، والذي يذل من يشاء هو الله، قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ….
يطمئن قلب المؤمن لأنه يعلم أن ربه الذي يؤمن به قادر على كل شيء تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، يقول للشيء كن فيكون، فهو الذي خلق الأرض ذات فجاج، والبحر ذا أمواج، والسماء ذات أبراج، فهل من خالق غير الله هذا خلق الله فأروني ما ذا خلق الذين من دونه.
يطمئن قلب المؤمن لأنه يعلم أن ربه يعلم السر وأخفى، ويعلم ما توسوس به النفس وما تخفي الصدور، وإن تجهر بالقول فغنه يعلم السر وأخفى، ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، فلا يخفى عليه حال الصالحين المصلحين، واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا، كما لا يخفى عليه حال الظالمين المتجبرين الذين يفسدون ولا يصلحون، ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء.
يطمئن قلب المؤمن، لأنه يعلم أن النفع والضر بيد ربه، فلا أحد يستطيع أن يجلب نفعا لنفسه ولا لغيره لم يشأه الله تعالى، كما لا أحد يقدر أن يضر نفسه أو غيره ما لم يرده الله ، قل لا أملك لنفسي نفعا و ضرا إلا ما شاء الله، ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم، أخرج الترمذي عن ابن عباس، قال: كنت خلف رسول الله يوما، فقال: «يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف».
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر
عباد الله إن قلب غير المؤمن يضطرب ولا يطمئن، ويقلق ولا يرتاح، ويحار ولا يهتدي، لأنه لا يعرف ربه الذي خلقه، ولا يؤمن بمولاه الذي أنعم عليه وأعطاه، بل يغضب إذا ذكر الله وحده، ويفرح إذا ذكر الذين من دونه، وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذي لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون، ويعيش موزع الفكر، مشتت الوجهة، تتنازعه الأهواء، وتقطع به السبل، فهو كما قال الله تعالى: ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون، فإذا كان المؤمن له رب واحد أسلم إليه وجهه، وأخلص له دينه، لا يخشى إلا ربه، ولا يطيع إلا مولاه، ولا يأتمر إلا بأمره، فإن غير المؤمن بخلاف ذلك، فله آلهة متعددة، ووجهات مختلفة، وأرباب متفرقون، هذا يأمره بأمر، والآخر يأمره بشيء آخر، وثالث يوجهه وجهة مختلفة، ومن ثم يعيش الحيرة، ويحيى حياة مضطربة، فتارة إلى الشرق وتارة إلى الغرب، وأخرى إلى غير ذلك، فيؤدي هذا الاضطراب بالإنسان غير المؤمن إلى البحث عن حل لمشكلاته، والبحث عن دواء لمرضه، فيتعاطى أنواعا من المخدرات، ويفر إلى المسكرات والمهدئات، ويدخل إلى المصحات النفسية والعقلية، ولكنه يبحث عبثا عن الماء في الصحراء، وعن اللؤلؤ في البيداء، وما درى هذا أن حل مشكلاته قريب منه، وعلاجه بداخله، وحاله كما قال الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما
والماء فوق ظهرها محمول
إن حل مشكلات الإنسان بصفة عامة لا يكون إلا بالرجوع الحقيقي إلى مولاه، وبالتعرف على جلاله وكماله وجماله من خلال التدبر في الكتاب المسطور والتفكر في الكون المنظور، وبعبادته على الوجه الذي أمر, آنذاك سيجد حلاوة الإيمان وأثرها الطيب, ويصفو له ود ربه، وآنذاك سيفوز بدنياه وأخراه، ألم يقل الله : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، أولم يقل الله تعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين .
الله أكبر الله أكبر الله أكبر
عباد الله لقد بلغت الإنسانية شأوا عظيما في التمدن، ووصلت مبلغا عظيما في التقدم التكنولوجي والصناعي، واستطاع الإنسان أن يصل إلى القمر، وغاص في أعماق المحيطات، واخترع وسائل الاتصال المختلفة من أنترنيت وهاتف نقال وغير ذلك، واستطاع أن يخترع السيارة والطائرة والغواصة والمركبات الفضائية هذا ظاهر لا ينكر، ومعروف لا يكفر، لكن هذا الإنسان بقي مضطربا، وظل قلقا، لم يمنعه تقدمه العلمي أن ينتحر، ولم يجنبه رخاؤه الاقتصادي أن يعيش التعاسة والقلق، تحل شهرته بينه وبين قتل نفسه، ولم تزرع في قلبه رحمة بالكون والإنسان، بل ازداد شراسة، وازداد قسوة، وأهلك الحرث والنسل، لأن ما وصل إليه من تقدم مادي، وازدهار اقتصادي، واختراع تكنلوجي ، هي أشياء جامدة، ومصنوعات تريح الطين والبدن، فمن يريح الروح؟ ومن يطمئن القلب؟ ومن ينزل السكينة في القلوب والنفوس؟ إن السبيل إلى ذلك هو الإيمان برب العالمين، والطريق للظفر بذلك برد اليقين، إنه ترياق الأرواح، وعلاج القلوب، وما عدا ذلك يبقى سرابا يحسبه الظمآن حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
وإن المسلمين اليوم ليتحملون أمانة عظيمة، وإن على عاتقهم لمسؤولية جسيمة، تجاه أنفسهم وتجاه الإنسانية، فالإنسانية عطشى الروح في حاجة إلى غيث الوحي، والإنسانية في ظلام تحتاج إلى نور القرآن، والإنسانية موتى القلوب تفتقر إلى روح الكتاب، فهل قدرنا ما عندنا من العلاج حق قدره فنستفيد منه ونقدمه للإنسانية غير مخلوط بعاداتنا وتقاليدنا؟، وهل فقهنا ما إن تمسكنا به لن نضل أبدا؟
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر
عباد الله … إذا ضعف الإيمان ونقص، وكان عبارة عن كلمات يلوكها اللسان أو عبارات يجادل بها الإنسان ساء خلقه، وقبحت أفعاله، وتقاعس عن أداء ما أوجبه عليه ربه، وتكبر على خلق الله، وأفسد في أرض الله، وظلم عباد الله، فتراه يسيء الجوار، ويغش في المعاملة، ويدلس على الناس، ويخون الأمانة، ويرتكب المآثم، ولذلك قال الرسول في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة، يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن»، وفي الحديث الذي أخرجه البخاري : «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه» – شروره-.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر
عباد الله إن أعظم نعمة على العبد نعمة الإيمان، فلا تضاهيها أي نعمة، ولا تساويها أية هبة، فمن أعطي إيمانا قويا فذلك المنعَم عليه حقا، إنها نعمة مطلقة صراط الذين أنعمت عليهم، وإنها عطية كبيرة، فهي سبب الأمن في الدنيا، وسبب الأمن في الاخرة، الذين ءامنوا ولم يلبسوا ….، وهي الأمان في الآخرة ألا إن اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين ءامنوا ….، لذا وجب علينا أفراد وجماعات إيلاء قضية الإيمان عناية خاصة، ورعايتها رعاية كبيرة، يجب العناية بها في البيت، والعناية بها المدرسة، والعناية بها في الجامعة، والعناية بها في الإعلام، بل في جميع المؤسسات.
د. محمد الفروني
————
*ألقيت هذه الخطبة بمصلى مسجد البركة بفاس يوم عيد الأضحى 1437.