“النجاح”: كلمة يطرب لها السمع، وينشرح لمعناها الصدر، “النجاح”: في العادة يرتبط معناه بالدراسة، لكن في الحقيقة ليس فقط في الدراسة، فالنجاح في كل ما يهم الإنسان في دينه ودنياه أمر وارد.
لكن الحديث عن النجاح لا يكون في الغالب إلا في الدراسة، والسبب في ذلك أن المقاييس قد تغيرت، و”الزمان تبدل” كما نقول في دارجتنا. ففي أيام زمان كنا نسأل التلميذ أو الطالب: هل نجحت؟، فقط دون زيادة، أما الآن فلم نعد نسأل عن النجاح فقط، بل نسأل عن نقط النجاح. لا لشيء، إلا لأن النجاح أصبح أمرا مُرَتَّباً من بداية المسيرة الدراسية، أو على الأقل مع انطلاق الدراسة في كل سنة، فالنجاح مضمون أو شبه مضمون؛ بتحديد نسبة النجاح أو نقطة النجاح أولا، وبالتنافس بين المؤسسات على الرُّتَب الأولى في سُلَّم نسب النجاح، حتى ولو كان ذلك بشكل خفي.
بل يمكن القول أيضا إن نقط النجاح أصبحت مُرتّبة هي الأخرى، مما يعرفه الكثير من أبناء المجتمع ومما يتداولونه بينهم في مجالسهم. ذلك أن العديد من الآباء يتذكرون بشكل جيد كيف كان مسار النقط وتدرُّجها عبر العقود الثلاثة الأخيرة؛ فحينما كان النجاح يحمل معنى النجاح فقط كان الحصول على نقطة 10 من 20 دليلا على المسار السليم والسديد للتلميذ، أما إن حصل على شيء أكثر من ذلك فإنه يدل على التميُّز والتفوق، وربما على النبوغ إن اقترب من 14 أو حاذاها. أمّا ما فوق ذلك فلم يكن إلا في الأحلام.
ومع مرور الزمن بدأت هذه الـمُسَلَّمات في التأرجح، إلى أن أصبحت نقطة المعدل 10 أو حتى إن كانت فوق ذلك بقليل، دليلا على الفشل الكبير وعل المستقبل المظلم العبوس؛ فالآمال تتحطم أو تكاد أن تكون كذلك، وأبواب المؤسسات المستقبِلة تضيق وربما تنعدم، وخاصة إن كانت النقطة هي نقطة البكالوريا.
قد يقول القائل إن هذا التزحلق إلى الأعلى دليل على ارتفاع المستوى، وأن إجابات الامتحانات في زماننا هذا أفضل من الأزمنة الماضية.
وأقول نعم يمكن أن يكون ذلك، بسبب ما تتيحه وسائل التعليم من إمكانات لم تكن تَدُر حتى في أحلام الأجيال السابقة، لكن ذلك محدود ويكاد أن يكون استثناء.
وأستحضر هنا بعض المواقف السابقة من ذاكرتي، لأستدل بها على ما أقول:
أولها: أني حينما كنت تلميذا بالمرحلة الابتدائية في أواخر الستينات من القرن الميلادي الماضي، كان اثنان من المدرسين لا يتجاوز مستواهما مستوى الشهادة الابتدائية (الخامس ابتدائي حاليا)؛ مُدرس الفرنسية كان يدرسنا الفرنسية بشكل متميز، ويتحدثها بطلاقة، ومثله كان مدرس العربية. واستمرا في أداء عملهما إلى أن أحيلا على التقاعد، بارك الله في عمريهما.
ثانيهما: في تسعينيات القرن الميلادي الماضي أيضا، حينما التحق عدد من الأساتذة للتدريس بمؤسسات في المشرق العربي، لم يستطع معظمهم التكيف مع الوضع هناك إلا بصعوبة، والسبب في ذلك هو مستوى التنقيط؛ فنقطة 10 من 20 كانت عندهم لا تعني شيئا، كما أن النقط المرتفعة التي كانت هناك كانت بالنسبة للمدرسين المغاربة لا تعني شيئا أيضا.
ثالثهما: قبل سنوات معدودة، بعد سنة 2000م، حينما كنت أُصِرّ وأنادي بالقول إن النقط المرتفعة لا تترجم بشكل حتمي المستوى الجيد. ولقد طبقت ذلك مع مجموعة من الأساتذة حفظهم الله، حينما كنا لا نشترط الحصول على ميزة لاجتياز مباراة الالتحاق بالدراسات العليا (دبلوم الدراسات العليا المعمقة، والماستر)، وقد رأينا العجب العجاب في ذلك، فالعديد من أصحاب العشرة أصبحوا نوابغ بعد ذلك، والعكس كان صحيحا أيضا.
لا أريد أن أسحب القديم على الحديث، ولا العكس، فلكل زمان رجاله وأبناؤه، لكن أريد أن أصل إلى نتيجة أن النجاح في زماننا هذا أصبح مرتبا بشكل كبير،بالمعنيين الإيجابي والسلبي للفظ “الترتيب”، فالإيجابي هو أن زماننا هذا قد أمَدّ المتعلمين بكل الإمكانات التي تمكّنهم من الحصول على أعلى الدرجات، والسلبي هو توظيف هذه الإمكانات لتقويض أركان التعليم ونقض أسسه.
وفي مقابل هذا الترتيب الـمُيسّر (بفتح السين وكسرها) هناك فشل مركب، يبدو أساسا في تدحرج المستوى وتقهقره إلى أدنى الدرجات، رغم ما ادُّعي من إصلاحات واستعجالات فيها، فخريج الشهادة الابتدائية الذي كان يمكن أن يكون معلما في الماضي، أصبح الآن في كثير من الأحيان لا يستطيع حتى كتابة اسمه بشكل سليم… ويمكن أن يقاس على هذا الكثير مما يعلمه الخاص والعام، مما انعكس على كل القطاعات، ولله الأمر من قبل ومن بعد..
أ.د. عبد الرحيم الرحموني